داليدا: .. من التألق الفني إلى النهاية التراجيدية …

 

عينات من الأجيال المغاربة، تحفظ في ذاكرتها الزمن الذهبي للأغنية الفرنسية، بعمالقتها الكبار. الكثير منهم زار المغرب، وفي طليعتهم إديت بياف، جاك بريل، شارل أزنافور..”
داليدا رمز من هؤلاء، عاصرت التألق، بل تربعت على قائمة مبيعات الاسطوانات، اعتبرها النقاد ثاني “ديفا” للأغنية الغربية بعد إديت بياف للقرن الماضي .
رغم مجدها وشهرتها وقيمتها الفنية والنجاح الذي حققته كـ “ديفا” بمواصفات عالمية، تغني بأكثر من خمس لغات، فإن حياتها كانت أشبه بتراجيديا إغريقية .. منذ زواجها حتى انتحارها، وهــي تترك رسالة ضمنتها عــبارتها الشهيرة أو ” كــوجـيـتــوها” الخـــــاص: “سامحوني لم تعد الحياة تحتمل”.
اسمها الحقيقي بولاند كريستينا جيجليوني، ولدت بحي شبرا بالقاهرة في 17 يناير 1933 من أبوين إيطاليين مزدادين بمصر، هاجر أجدادها بدافع الفقر والحاجة هربا من الحروب شأنهم شأن الكثير من الأجانب في بداية القرن الماضي. عاشت طفولة عادية تذهب إلى المدرسة والكنيسة. وما أن أصبحت يافع حتى أضحى والدها حاد الطباع يمنعها من الخروج مع صديقاتها وأصدقائها. أحبت فتى إيطاليا وكانت تجد طرقا للإفلات من رقابة الوالد للقائه، وبحكم الأسرة المحافظة وضغط الوالد، اقتنعت بأن قدرها هو أن تعيش حياة عادية كأي امرأة، وأن تصبح زوجة وأما. لكن ما أن توفي والدها حتى تغيرت قناعتها عن فكرة النمطية كربة بيت.
تعلمت النقر على الآلة الكاتبة، فاشتغلت في شركة للأدوية سكرتيرة. لكن حلم النجومية الذي كان يسكنها ظل يراودها في أن تصبح ممثلة كبيرة. كانت رغبة الشهرة لديها قوية تسعى لتحقيقها مهما كلفها ذلك من ثمن. طرقت باب المشاركة في مسابقة الجمال، وكانت المفاجأة أن فازت بملكه جمال مصر سنة 1954. وباعتبار اللقب الذي نالته، انفتحت في وجهها بعض الأستوديوهات السينمائية. وكانت تسند لها من حين لآخر بعض الأدوار التي لم تكن ذات أهمية. التقت أثناء تصوير أحد الأفلام بممثل شاب يلتمس طريقة مثلها، فتعلق بها، لكنها عاملته بجفاء، وكان ذلك الممثل الذي سيصبح نجما عالميا هو عمر الشريف.
لم تشف تلك الأدوار الثانوية طموحها، فقررت السفر إلى فرنسا في نفس السنة 1954 حيث تعهد أحد الفرنسيين بمساعدتها، لكنه لم يفلح، فقررت الاعتماد على نفسها بتقديم طلبات إلى وكالات مختلفة تبحث عن مواهب في مجال التمثيل، إلا أن المتقدمين كانوا كثر. اضطرت للعودة إلى القاهرة بإلحاح من والدتها.
ومع أنها منيت بالفشل لم تستطع أن تكبح طموحها في الشهرة، فعاودت السفر إلى باريس، وتعرفت إلى رجل يدعي رولاند برجر. اقتنع هذا الأخير، الذي يشتغل مدربا للصوت، أن صاحبة الطول الفاره، وتسريحة الشعر الجميل، تحمل مواهب في حاجة لمن يكتشفها. فحاول إقناعها بأن تصرف النظر عن التمثيل وتتجه للغناء، لم تتقبل الفكرة إلا لماما، لكن فراسة مدرب الصوت لم تكن خاطئة. إذ بدأت تأخذ على يديه دروسا في تمرين الصوت، متحملا عصبيتها وحدة طباعها الموروثة عن والدها، حتى تمكنت من تقوية قدراتها وأصبحت جيدة في الأداء. ومن ثم أخذت تغني في الكباريهات البارسية.
تقاسمت شقة مع صديقتها في إحدى البنايات، التي كان يقطن بها شاب لفتت وسامته انتباهها. تعرفت عليه بحكم الجوار والطموح المشترك، إذ كان هو الآخر يبحث عن دور في السينما. كان الشاب يمر بظروف غاية في الصعوبة حتى أن داليدا كانت تطعمه لما لم يجد ما ينفقه. هذا الشاب هو الممثل الكبير (الن دولون).
في المكان الذي كانت تغني فيه التقت أحد السينمائيين الأمريكيين، الذي تعرفت عليه في الأقصر بمصر أثناء تصوير أحد الأفلام، وقد كانت تسمي نفسها وقتذاك “دليلة” لإعجابها بفيلم”سامسون ودليلة” فاقترح عليها تغيير هذا الاسم، لأنه غريب وموحش يوحي بالعدوانية في نظره. وبعد تفكير عميق قررت أن تزاوج اسمها الحقيقي (بولاند) باسم دليلة الذي تحبه، لتخرج بتوليفة “داليدا “.
اعتلت ذات مساء مسرح مكان عملها بالكاباريه، وكان شخص يجلس مع أصدقائه، وما أن بدأن الغناء حتى قطع حديثه ليستمع إلى سحر صوتها. كان هذا الشخص هو برينو، مدير أولمبيا باريس. تعرفت إليه وقدم لها المساعدة، ففتحت أمامها أبواب الشهرة، فتدفق النهر الفني الجارف، إلى أن وصلت بالغناء إلى الأوبرا التي لا يلجها إلا الكبار. تألقت وغنت بلغات متعددة: الفرنسية، الإيطالية، العربية، الإنجليزية، العبرية واليونانية والتركية …
وفي أغنية جميلة لها كأنها تشرح لماذا تغني:
Pourquoi, je chante
Voila, Pourquoi, je chante
Voila, pourquoi je t’aime
Voila pourquoi, ma vie ? besoin de ta vie
لها الكثير من الأغاني الناجحة على سبيل المثال:
Parole parole, la mama, le temps des fleurs, et, pour en arriver l? ?
كما أدت دويتوهات مع شارل أزنافور، وخوليو إغليسياس. وأعادت غناء سيد درويش وبعض أشعار صلاح جاهين، ومن أشهر أغانيها (سالمة يا سلامة، حلوة يا بلدي، أحسن ناس)، وجمعت في كشكول جميل أغاني عبد الوهاب وفريد الأطرش وفايزة أحمد وعبد الحليم. كما مثلت في فيلم “اليوم السادس” ليوسف شاهين، قبل سنة من وفاتها.
حبت كثيرا، وتزوجت أكثر من مرة، لكن التراجيديا كانت تلاحقها في علاقاتها. زوجها الأول الذي انفصلت عنه ببضعة شهور انتحر بسبب فشله في الزواج الثاني وفي استرجاعها. أحبت شابا إيطاليا كان هو الآخر في بداية الطريق، مغنيا، عبدت له الطريق وقدمت له الكثير من المساعدة، لكنه انتحر بطلقة نارية من مسدسه. وكانت داليدا أول من رأى جثته ممدة ومغطاة. ولما لملمت الجراح وتمكنت من نسيانه أحبت رجلا آخر انتحر أيضا.
ربما هذه الأحداث التراجيدية في حياتها وفي زواجها، هي التي شكلت جبل أحزانها. رغم أنها كانت تبدو مقبلة على الحياة، محبوبة جدا من الجميع، بحيث صادقت الكبار في مقدمتهم الرئيس الفرنسي الاشتراكي الراحل الذي كانت له جلسات متعددة معها وصلت حتى مآدب العشاء …
وعن 54 سنة في 3 ماي 1987 وضعت حدا لحياتها بتناولها أقراصا مهدئة زائدة، بعد أن تركت رسالتها الشهيرة المذكورة … وكأنها تردد أغنيتها الجميلة pour en arriver l والتي مطلعها :
J’ai travers des nuits et
Des jours, sans sommeil.
Pour en arriver l.


الكاتب : محمد جمال

  

بتاريخ : 13/10/2017