دراسات قرآنية.. في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟ 3/3

إنّ تقصّي مظاهر الكتابة في نصّ كالقرآن ( القرآن / الوحي والقرآن/ المصحف ) يؤكّد أنّ الجهل بالخط لا يعني ضرورة الجهل بالكتابة. فالوحي «كتاب» أو هو نصّ «كتابيّ مكتوب» ما أخذنا بالاعتبار مفهوم الكتابة عند العرب، من حيث هي بنية أو تجميع وتأليف أي جمع أشياء بعضها إلى بعض ووضع جمل بعضها مع بعض وربط أحداث بعضها إلى بعض، لأداء معنى مفيد. وربّما تعزّز المظهر الكتابيّ في القرآن /الوحي بهذه الإشارات المرئيّة التي نقف عليها في ازدواجيّة عناصر الاتّصال غير الصّوتيّة. وهي ازدواجية قائمة في جذر أيّ تجربة جماليّة يمكن أن تقدّمها الكتابة. على أنّها في «القرآن الوحي»، وربّما في غيره من أجناس القول، ليست كتابة خالصة. فنصّ الوحي يقارب القصيدة طالما كان المرسل هو المتكلّم، وينحو باتجاه المكتوب طالما كان المتكلّم ممايزا من المنشئ (الذّات الإلهيّة). وهو، من ثمّ، نصّ محكوم بهيئة من التّأليف شبه شفويّة وهيئة من التّأليف كتابيّة أو شبه كتابيّة. ومن هذا الجانب فإنّ «التّأليف الشّفهيّ» في ثقافة كتابيّة أو هي عرفت الكتابة بنسبة أو بأخرى، لا يمكن إلاّ أن يختلف عن «قرينة» في ثقافة شفهيّة خالصة.
ومهما يكن فإنّ سلطة الكتابة الاجتماعيّة منوطة بنوع الكتابة أو بمفهومها، أكثر منها بكمّها أو بمدى ذيوعها وانتشارها. والقرآن إنّما شدّ العرب بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، وتحيّروا، فمن قائل إنّه شعر أو سحر وقائل إنّه أساطير الأوّلين أو سجع الكهّان،وقائل ينزّهه عن هذا كلّه فما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة. بل إنّ ابن الرّوندي (أو الرّيوندي) الذي عاش في القرن التّاسع ميلادي، يطعن على القرآن في غير موضع ممّا تبقّى من نقول كتبه، وهي شذرات قليلة جدّا. ويرى فيه تناقضا وكلاما مستحيلا، وأنّه ليس بمنزّل. ونقرأ في «الأغاني» أنّ بشّار بن برد فضّل بعض شعره على سورة «الحشر»، وأنّ أبا العتاهية قال لبعض أصحابه: «قرأت البارحة «عمّ يتساءلون» ثمّ قلت قصيدة أحسن منها». و مع ذلك ففي هذا الزّعم أو ذاك تسليم بأثر أساليب القرآن وبيانه في نفوسهم أي بما هو منضو إلى النوّع و»الحسن» و»الممتع» أو راجع إلى الوظيفة الشّعريّة أو الجماليّة أو إلى»الغريب» أو»غير المتوقّع».
وما كلامهم في مباحث الإعجاز، والوحي بعيد العهد عنهم، على”مفارقة القرآن لكلام العرب” و “خروج نظمه عن سائر نظومهم” سوى تسليم بنوع من “بيان القلم” لم يكن للعرب به سابق عهد. وبهذا النوّع من الكتابة استطاع النبي على- “أمّيته بالخطّ”- (اختلف المسلمون في هذه الأمّية. والأرجح أنّه لم يكن كذلك. وحتّى لو كان فالأمّية بالخطّ لا تعني ضرورة الأمّية بالكتابة. فضلا عن أنّ للأمية معنى آخر دينيّا لا يعنينا في السّياق الذي نحن به) أن يجمع سلطان النّصّ إلى سلطان النبوّة الاجتماعيّ والسّياسيّ وأن يجعل العرب يعتقدون في اختلافه عنهم، وتميّزه عليهم فيحشدهم في طاعته وفي مراتب قيمه ونسيج نصّه، برغم أنّ المتخيّل الذي ينهض به “النصّ” [القرآن] متخيّل تخاطب كتابيّ يخصّ طائفة من النّاس مأخوذة بالكتابة؛ والحال أنّ الكتابة لم تكن ذائعة شائعة في بيئة هؤلاء العرب القدامى،كما هي الحال اليوم في أكثر بلدان العالم الإسلامي.
فلعلّ سلطان الكتابة كان راجعا، في جانب منه، إلى تطابق صريح بين سلطة النّبيّ السّياسيّة وسلطة المتخيّل وطرائق أدائه. والكتابة ـ في ما تبيّنه الدّراسات الحديثة ـ إنّما تكون حامل تصعيد أو حامل تسام أو إعلاء، كلّما استشعرت الجماعة المرتبطة بها، الحاجة إليها من حيث هي صورة من صور التبعيّة للآخر والولاء له. وهذا رأي تثبته شتّى الكتابات الدّينيّة وتنهض به، ونلتقي في “القرآن على القرآن” أو “الخطاب على الخطاب” أدّلة وقرائن كثيرة تتضافر كلّها في صياغة “لغة واصفة” تشير إلى تفكير الذّات المتكلّمة في خطابها من حيث هو الكلام المعجز المبين ووحي السّماء وأساس التّشريع والقانون المنظّم للسّلوك والمرشد إلى معالي الأمور؛ أي “التلفّظ” أو “القول” القائم على متكلّم ومستمع، حيث المتكلّم مدفوع برغبة التّأثير في المستمع أو المتقبّل بطرائق وأساليب شتّى. ولا نعدم في مباحث الإعجاز لفتات طريفة إلى الأثر الّنفسيّ في أسلوب القرآن، حيث تطّرد عند علماء الإعجاز مثل الرّماني والخطابي والباقلاّني وعبد القاهر الجرجاني، مفردات مثل “اللذة” و”الحلاوة” و”المهابة” و”الروعة” وما إليها من عبارات تتضافر في صياغة سلطة ذات “كاتبة” غير منظورة، تنفصل ـ وهي تتكلّم ـ عن العالم المتخيّل الذي تنشئه على قدر ما تتّصل به.
وعليه فإنّ الأثر النّفسيّ في أسلوب القرآن وكتابته أو “رسوم نظمه” بعبارة الخطابي ـ ولعلّها ليست إلاّ رسوم الكتابة حيث “الحاجة إلى الثّقافة والخدمة فيها أكثر لأنّها لحام الألفاظ وزمام المعاني، وبه ينتظم أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النّفس يتشكّل بها البيان”، وما يلازم هذا الأثر النّفسيّ من نظرة دهشة وإعجاب ويخلص منه إلى القلب من “اللّذة” و”المهابة” و”الرّوعة”، وما يتلوه من يقظة الإدراك وصحوة العقل، سواء أكان المتقّبل، من النصّ في سهولة مأخذ وحسن تأتّ، أم كان منه بين ارتفاع وصبب ـ مظهر لافت من سلطة الكتابة القرآنيّة، لا ينسرح العقل منها ولا ينفكّ عنها.
غير أنّ الكتابة، بقدر ما تثّبت الكلام وتقيّده، فإنّها تسمح أيضا، لسبب ما أو ذريعة ما، بإعادة ترتيبه أو بتصحيفه وتغيير معناه. من ذلك أنّ القرآن/ الوحي هو في المعتقد الدّينيّ الكلام الإلهيّ المنزّل الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولكنّه، وقد كتب، فإنّ المسلمين، منذ أن نهضوا بجمع القرآنـ وكان بعضه مسطورا في العسب واللّخاف والأكتاف… وبعضه محفوظا في الذّاكرةـ لم يجدوا غضاضة في إعادة ترتيبه. بل إنّ من الشّيعة من يذهب إلى أنّ عثمان محا الآيات التي تؤيّد علي بن أبي طالب وأتباعه.
وعليه يكون من السّائغ أن نتحدّث عن نصّين اثنين: “نصّ” الوحي المحكوم بأسباب التّنزيل، ونصّ المصحف المحكوم بأسباب الكتابة ودوافعها ومواقيتها، أو إكراهات الكتابة، بعبارتنا اليوم. وسواء علينا أحملنا هذين “النصّين” على أنّهما مظهر من مظاهر التّقليد الشّفهيّ في أداء القرآن أم مظهر من “كتابيّته”، فلا مناص من الإقرار بأن سلطة الكتابة نسبيّة وليست مطلقة كما قد يتبادر إلى الذّهن. بل ربّما سوّغنا الرّأي القائل بهشاشة الكتابة وبعدم الإفراط في تقدير “الحقيقة”، حقيقة الكلمة المكتوبة. ويتعزّز هذا الرأي، إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ العربيّة التي كتب بها القرآن، إنّما هي عربيّة “ما قبل الإسلام”، أي عربيّة الشّعر والمثل والخطابة وسجع الكهّان وفنّ التّوقيع.ولا نظنّ أنّ هناك من يجادل في أنّ هذه العربيّة ليست قانونا نافذا على الدّهر،وإنّما هي لغة نسبيّة مقصورة على حقبة بعينها،محدّدة ،أي عالم الذّات التي تعقد أكثر من علاقة بين ملفوظها وفعل تلفّظها، فيما La deixisب “أنا/الآن/هنا”، تتكلّمها في القرآن “ذات” تدور على مطلق، أو هكذا هي تقول


الكاتب : منصف الوهايبي

  

بتاريخ : 04/06/2020