ديوان «عربية حمراء» لإسلام علقم: مرثاة جيل تُخجله مراياه

واهم من يزعم أنّ الشعر كمالاً في أقصى تعريفاته، وإن أعطى انطباعات قد ترفد في مثل هذه التهويمات،نظرا لرمزيته القارّة في وعي وذاكرة الإنسان منذ القدم،كون هؤلاء الذين صبغ عليهم المقدّس توصيفا اشتقّ من الغواية، إنمّا يُسقطون على هذا الفنّ التعبيري،شتّى مناحي عجزهم وقصور أصواتهم ،وهم يحاولون عبثا،ما يشبه الولادة القيصرية في تثوير معاني جديدة ،يفترض أن تقدّم البدائل وتبصم الحلول،تشبّثا بهذا الوهم الكبير المكنّى شعرا،والمسطّر أساسا بهوية مرجّحة للوظيفة الجمالية في لبوسها المازج ما بين عنصرين يصونان للشعر صورته الميتافيزيقية وكاريزماه القابعة في مخيلة تربّتْ أو تلقّنتْ وصايا تمجيده ورفعه فوق مستوى الحياة في كثير من الأحيان، جيلا تلو جيل.
وكأنّ «لوركا» هذا الأعزلُ إلاّ من مواويله الغجرية، لم يقدّم نفسه قربانا لهذا الشعر ،وكيف أنه، أي هذا الفنّ، ما ينفكّ يؤرّق العقول،بمعادلات البحث في غائيته، أمّا القلوب فله عليها سلطانا كبيرا، لا جدال فيه،بحيث مات مثلما عاش «لوركا» على الشعر بكامل نقائصه ولوثته المترجمة لضعف طينة الجنس البشري،وافتقار صلصاله إلى أجنحة ريشها الخيال ولا يمكن لخطاب تواصل آخر أن يتيحها غير الشعر (شفاهة وطباعة).
كأنّه بطريقة أو بأخرى،لمّح إلى القصد المسلّم به ،عبر تلكم التضحية الجسيمة التي قد لا يستحقّها الشعر وإن بلغ الافتتان به حدود الجنون.
بما القناعة الذاتية تجسيد لانفتاح واخز بارتجالات الفضول، وتفسّخ على جوانب إبداع الاستشراف وتحبير متون النبوءة القاتلة ،كما هو حاصل مع هؤلاء العباقرة ،على نذرته،إذ في ذات الإطار، نستحضر كذلك، سيرة الشاعرة الأمريكية» سيلفيا بلاث»،وعموم التجارب المتناغمة وما يعكس حياة الإحباط المفخّخة بأسئلة الشعر وجدواه.
تماما،مثلما خلعت الفلسفة الأفلاطونية،عن سرب الغاويين،جنسية المدنية مصحوبة بإضافة الشرف أو الفضيلة وما تنمّ عنه من دوال للهلامية و المثالية، ولاشكّ أن في الطرح تعارض، كون الشعر أقرب من حيث تصوارته إلى الهروب الهذياني باتجاه عوالم المثل،مهما سحر بواقعيته وأوغل في تفاصيلها.
تمّ إقصاءهم ونفيهم بعيدا، حيث أفق الوهم، الأليق بهم، فقط،على نحو تثار معه جدلية العقل والشعر، هذا الأخير المحتفي بالقلب،بدرجة أولى، والمنذور لفعل استنطاق كمون الوجدان. ولو أنّ افتقار النوع البشري إلى هذا الفنّ ،نابع من الضرورة الوجودية لا أكثر،وليس من باب الترف والكماليات ،تحقيقا لأدنى مراتب المصداقية،ونأيا عن دوائر التزلّف والزّيف،إذ الحقيقة الجوهرية تكمن في كون الشعر غير معنيا بتغيير الواقع على تنوّع تجاوزاته للكائن،وإن يك هناك ضرب من هروب أو قفز فوق الراهن، بالممارسة الإبداعية ،إجمالا،وفق مقاسات تسمح للذات المبدعة أن تسكب في النصّ المتخيّل، مُعادِلات عجز الطينة الإنسانية،وتوجّع صلصالها،بحيث تُنهك الذات الشعر في أرقى مستويات قداسته المتّفق عليها، حقْنا بالثغرات والسلبية والنقصان، نافية عنه صفة الاكتمال.
دائما وفي السياق ذاته، ونحن بصدد مقاربة ديوان « عربية حمراء» للشاعر إسلام علقم، لا يمكننا إلاّ أن نلوك سؤالا أضجرنا كما أضجرناه: ما فائدة هذا الكمّ المهول من الدواوين التي تُطبع باستمرار؟
ما دام الشعر متّهما بالعجز عن تخليق الحياة السياسية والعامة،و مادام محتفظا برمزية لا تسمن ولا تغني من جوع، تسكن المسافات الممتدّة بين ضفتّي الأزل والأبد.
من حقّ أيّ كان، ناقدا أو باحثا أو مهتمّا أو قارئا عاديا، أن يستفسر حول الظاهرة،وأن يتحرّى مكامن الجدّة والإضافة والمغايرة من عدم كلّ ما ذكر.
ثمار وإن توفّرت في أيّ منجز، تكاد لنسبيتها ولرقمها الرّهين بطول عُشريته ، لا تحتسبُ إزاء ما يفتي به الولوج في الحالة الشمولية وما تختزله من عُقد وتركيبية تضخّم الاستشكال الذي يقضّ أذهاننا ويحرجها بسؤال غائية الشعر.
لكن بالرغم من ذلك، يبقى ثمّة أمل وخير يُتوسّمُ في صفوة من شعراء الحداثة، في خطوهم الحثيث صوب ما قد يسهم ببعض الحلول بغية تطويق كهذه أزمة،نذكر على سبيل المثال ،لا الحصر، الشاعر المبدع إسلام علقم،وهو ينثر على هامش نضاله الحياتي ،فسيفساء بوح تتكتّم ملامحها على جملة من المضامين المدغدغة بإرهاصات ثقافة جديدة مسكونة بروح التخليقات المخففة عن الشعّر البعض من وعكته و لعنة ما يحاصره من اتهامات.
ففي ديوانه الصادر حديثا عن وزارة الثقافة الأردنية ، بعد الباكورة « بين العشق والألم» الموقّع سنة 2016 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر،تومض أوراق الزجّ بالشعر في المعمعة النضالية نزوعا نحو جوهر مساحات ما يمكن أن يجود به الوعي بغائية تخليق السياسي للثقافي والعكس بالعكس .
هذا الإصدار الجديد الذي يقع في250 صفحة تطرّز بياضها 141 قصيدة بالتمام،مراوحة بين البروز الخليلي والملمح التفعيلي،ومناوبة على المطوّلات والنصوص القصيرة والمشذّرة،محاولة تفجير تيمات مغايرة تجسّدُ نزوعا جوانيا فيما يلتحم بأسلوبية وخطاب البحث في الراهن العربي مثخنا بدمويته واضطراباته وفوضاه.
مولود لا تتكرّر الذات من خلاله وإن أمعنت في الوقوف أمام ذاتها ، بحيث يطالعنا بجملة من المفارقات يسجّلها إبداع الدهشة والعزلة والغرابة، تصاديا مع إيقاعات عشرات القصائد الموزّعة ما بين بعدي تواز يعكسان هموم وهواجس وانشغالات الذات الشاعرة: إنشطار منذور لتقنيات تصوير الواقع، وآخر موغل في الاستشراف المستقبلي ومصطبغ بمتون النبوءة.
من بين هذه النصوص المتدرّجة بين مراتب التشرّب من خلطة خلفية تدشّنها تناغمات النزعة الرومانسية والوازع الفلسفي وحسّ الانتماء، نذكر: (حياة الفراش، سليل الدخان،تواعد الرّيش، وفاة عبر الأثير،جميلتي عمّان ، أنا المقدسي ، وغادر الطفل، أماه يا فرح العيون) .
يقول: [ وفي التساؤل/ والشكوك/ وفي الهروب/وفي الرّؤى/وجه يمزّقه الغروبُ/ويعجبُ/ كيف التّراب يضيءُ لي/ بقعا تلوذ بخطوتي/ دربا لغيري لا يُرى/دينا / يسمّي عودتي/ إنّي أخفُّ ومعصمي/ يرتاحُ في كفِّ الملاك].
إضافة إلى نصوص أخرى عديدة ونابضة بمشاعر الحنين إلى الجذور الأولى، بحكم منبت الشاعر الفلسطيني، وأيضا تجليات اليتم وغبن الأمومة وقد هيمن بشكل لافت على مخيلة إسلام ،ما جعل أحرفه تنزّ مرارة وتئنّ توجّعا في غمرة ما يمكن أن نسميه الثأر الإبداعي الرمزي كنتيجة طبيعية لمثل هذا المصاب والذي ما بعده مصاب ،متمثل في فقدان مبكرّ للأمومة .
من طقوسها وهي تمارس غوايتها بالديباجة الفلسفية في انتصارها لإنسانيتنا النازفة ، نقرأ قوله: [ عيني تقلّبُ في المرايا سحنتي/ وكأنها وجه لغيري ينظر… نزق السنين وحملها في رحلتي/غيم يسيرُ إلى البحار فيمطر… يا شمس عمري ما رسمتِ معالمي/حتّى الظلالُ برفقتي تتكسّرُ].
بالعودة إلى عتبة الديوان، نستلهم منظومة من المتون التي تسبحُ معها الذات في مركزيتها المتشبّعة بثقافة البحث عن سبل نضال جديدة،ولعلّ الأغرب في نظير هذه العنونة،ذلكم الاتفاق المقصود مع لسان حال الراهن العربي في نزيفه المستمرّ.
دمُ الولادة التي تكفل للشعر ترعرعه خارج قفص الاتهامات،الشهوة الأولى كخطوة لزرع الحياة ،وتفريخ جيل متحرر من عقدة الخجل أمام مرايا زمن الهزائم والخيبة والانكسارات.
مقابل دم مسترخص تلطّخ به الشعر أيضا فهيمنت عليه مشاهد الجنائزية ،ومعها توسّعت حلقة نزع الملكية و الجدوى عنه ، كــــديوان للعرب ، حاوٍ لمعاني الهوية و الفروسية والأعياد والأمجاد .


الكاتب : احمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 18/10/2018