ذكريات عبرت… فأرخت.. أنصفت وسامحت -6- كان مولدي بمدينة آسفي… وجدي توفي على إثر بطش القائد عيسى بنعمر

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي .. .في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما « اٌلْقَدَرُ» كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ « أَبْطالٍ « بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَاٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَصَنعُوا مِنْ «لَهيبِ الصَّهْدِ» جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ وانْكِسارَاتِهِ، وَجِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، وعَبْرَ دِفَّتَيْهِ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ … بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَالأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ … وَعَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ، وأَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي «توفيق الوديع» دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ ومَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ والبَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَتَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ…

 

كان مولدي بمدينة آسفي بمنزل الوالد الواقع بكدية سي حمزة ربيع سنة 1923، في أحضان أسرة ميسورة ومحافظة، والدي قرر الاستقرار بحاضرة عـبـدة واخـتـار الـجـزارة كمهنة… عُرف باستـقـامته ونـزاهـتـه وعدله بين التجار حتى أجمعوا على اختياره أمينا للحرفة، وكانوا يرجعون إليه في خلافاتهم مع بعضهم وكذلك مع أبنائهم فأطلقوا عليه إسم «الحاج العربي العريف» والعريف هو العارف بأمور عديدة ولم تكن معلافته محصورة في التجارة ، بل تعدتها للأدب والشعر، فقد كان منزله قبلة لشعراء وفـقـهـاء زمانه، وعـلى رأسهم أسـتـاذي الجليل المختار السوسي والفقيه محمد الكانوني.
جدي الحاج علي توفي نهاية القرن التاسع عشر، ووالدي لازال عوده لم يشتد بعد، كانت وفاته جراء مناهضته و معارضته الشرسة لبطش القائد عيسى بن عمر بأهل المنطقة، حمل السلاح مقاوما جبروته و سهر على تنظيم أهل عشيرته، وتوعيتهم بضرورة التصدي لكل من سوّلت له نفسه استغلال نفوذه من أجل قمع أبناء الشعب و حرمانهم من حقوقهم الأساسية … وكان يعطى المثل بالشيخة خربوشة التي انتفضت في وجه الطاغية، غير مبالية بالعقوبات المحتملة، والتي أدت بها إلى وفاتها في ظروف مريرة و قاسية.
قاد عيسى بن عمر هجماته على كل مناطق عبدة، وخصوصا مدينة آسفي، التي وقف أهلها سدا منيعا ضد خيّالته المدججين بكل أنواع السلاح، وقد دامت معركة مداهمة المدينة أياما بلياليها، قضى على إثرها المقاومون تحت حوافر خيول مجندي القائد بتحالف مبيت مع المسؤول العسكري عن المدينة، حيث استشهد العديد من أبناء آسفي بطريقة بشعة حتى أن سنة المُداهمة سميت « بعام الرفسة»، وهي المعركة التي رُفسَ فيها الـصغـيـر و الكبير وتوفي جدّي متأثرا بجراحه عقب تصدّيه، وعدد من المُحاربين، على إثر ذاك الهجوم العنيف .
حافظ والدي، الحاج العربي، عـلى المبادئ الـتي ورثها عن جدّي الحاج علي: النزاهة، الاستقامة، عزّةُ النّفس و أساسا محاربة كل ما من شأنه أن يمُسّ بكرامة الإنسان، حريته و غيرته على أرضه مبادئه.
حرص الوالد على البقاء قريبا مستمعا ومؤازرا للطبقات الفقيرة من أبناء مـديـنـتـه، و أكثر قربا من نبض الشارع، وذلك خلال تتبعه للأنباء الوطنية والدولية، عبر مذياع المدينة الوحيد الذي اقتناه واقتسمه وساكنة الحي، وذلك بالرفع من صوته في مواعيد الأخبار خصوصا، تلك التي كان يحرص على تتبعها عبر إذاعة لندن الشهيرة .
كان قد اشترى المذياع بثمن باهض جدا رغم معارضة نسائه اللائي كنّ يفضّلن هداياه من الحلي النفيسة. ولكنه أصرّ، فصار من الضروريات اليومية . ففضلا عن الأخبار، كان يستمتع لاحقا بسهرات أم كلثوم على إذاعة صوت العرب مساءات الخميس حيث كانت تغص جنبات المنزل، حتى ساعات متقدمة من الليل بمحبّي كوكب الشّرق .
لم أكن الوحيد الذي اهتم بالسياسة، فإخواني حسن وامْحمد وهبا حياتهما للعمل النقابي والسياسي مع اختلاف في التوجهات، وحين اختار حسن الاستمرار في نقابة معينة إلى آخر حياته … رافقني امْحمد في رحلتي الحزبية والنقابية وكان نعم الأخ المناضل… ولا زلت أرى ذلك في ابنه الملتزم أبو إلياس، الذي عرف كيف يستلم المشعل، عند رحيل والده، وهو بعد في مُستهلّ عقده الثاني، بنفس روح نكران الذات.
قاطعت سامية جدّها قائلة:
«أظُنُّك تتحدّثُ عن عـمّي منير يا جدّي، فـأبي يحرص دائما عـلى زيارته و زيارة والدته خالتي خديجة، يذكرني دائما بدورها النبيل في تربية الأبناء ووالدهم غائب في مهامه الحزبية والنقابية والتي عرفت كيف تدير أسرتها بعد رحيل عمي امْحمد المبكر».
كان الانشراح باديا على الآسفي وهو يكتشف مدى حرص صغرى حفيداته على تاريخ الأسرة العبدية… واستمرّ:
منتصف ثلاثينيات القرن الماضي ، وبالتحديد سنة 1937 كانت حاسمة في مستقبلي الدّراسي والسّياسي … فمتابعتي لما يقع من تجاوزات على يد المستعمر في مختلف مناطق بلدي جعلتني أنتفض بعفوية المراهق الذي كنت، حيث قررت تنظيم مسيرة ضمّت عشرات من أبناء الحي، كنت زعيمهم، تجولنا حول عدة أحياء من المدينة وخصوصا على طول شارع الـربـاط، الشريـان الـرئيسي للمدينة، حملت خلالها العلم الوطني ووضعت طربوشا أحمر وطنيا على رأسي ورددنا جميعا أبياتاً شعرية لقصيدة إرادة الحياة للشابي والتي مطلعها كما يعلم الجميع :

إذا الشّعْـبُ يَوْماً أرَادَ الْحَـيَـاةَ ۩ فَـلابُـدَّ أنْ يـَسْـتَجـيبَ الـقَـدَر
وَلا بُــدَّ للـيــلِ أنْ يَـنـْجَـلِــي ۩ وَلا بُـدَّ للـقـَيـدِ أنْ يَـنـْكـسِــر

إلى أن يقولَ:
إذا مَـا طَـمـَحْـتُ إلِـى غَــايَـةٍ ۩ رَكـِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
و لمْ أَتَجَـنَّـبْ وُعُـورَالشِّعَـابِ ۩ وَ لا كُـبَّـةَ اللَّـهَـبِ المـُسـْتعِـر
وَ مَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجبَال ۩ يَـعِـشْ أبـَدَ الـدَّهْـر بَيْنَ الحُفَر

* * * * *

داهمتنا قوات الشرطة، و حين التفَتُّ نحو زملائي وجدتُني وحيدا أُردّدُ البيت الشعري، صفعني الضابط بقوة، وبنفس القوة … تمسكت بربطة عنقه صارخا «آعتقلني إن شئت، واشـرح لي أولا سبب اعتقالي وعـندما سأقـتـنـع بالأسباب الـتي تجعلك تعتقلني، سأصاحبك حـيـث تـريد ودون تردد …» كان الردُّ عنيفا، فلم أنتظر كثيرا لأشعر بنفسي وأنا معلق في الهواء. لقد تلقفني الضابط من ظهري ورمى بي في السيّارة التي أقلتني إلى معتقلي الأول..!!


الكاتب : توفيق الوديع أعدها للنشر: منير الشرقي

  

بتاريخ : 23/08/2019