سير

 

كل صباح أراه يمشي على الماء، فولد في المشهد فضولا كان لابد لي من إشباعه، إذ كيف يمكن أن يكون ذلك متحققا وأمام ناظري وتحت أنظار الناس كافة؟ ضروري أن يثير أسئلة بعد التعجب، ضروري أن تحذونا الرغبة في تعلم الحيلة، وإلا البيعة..
ثم، بعد توالي الوقت، اكتشفت أن ما يقوم به ليس من باب رغبته في إظهار ما يمتلكه من معجزات، بل صار روتينا يوميا، يقوم به من دون متعة ولا نشاط، كلما أراد التوجه إلى مقر عمله، ويزيد عجبنا الشاهد حين يقوم الرجل بقفزات بهلوانية لا تجعله يغرق بتاتا، إلا في غضبه الذي تتسع رقعته مع توالي الأيام.
المهم، إنه قليلا ما كان يصل إلى مقر عمله في الوقت المحدد، فقد تكون معجزة السير فوق الماء قد استهلكت طاقته كلها، فتراخى في الذهاب. الأمر الذي كان يجر عليه توبيخ مديره، مما يثير حنقه؛ خاصة وأن هذا الأخير قصير القامة هزيل البناء لكنه يمتلك لسانا سليطا، وكان بإمكان الرجل أن يحرك يده ليقتلع المدير من الأرض ويطوح به بمجرد ضربة صغيرة إلى السماء، فقد كان طويل القامة، متين البنيان، لكن اللغة تخونه فلا يعرف بما يرد. وهذا ما كان يزيده في معاناته فيصيرها مضاعفة.
تراه يسير أول مرة فتظن أنه ساحر أو ترجعها إلى كيد ضعف البصر، لكن الحقيقة أنه يسير فوق الماء لا رغبة في الظهور ولا بغاية لفت الانتباه. وتأكيد حضوره في هذا الواقع البائس…يمكن أن ترى ذلك باديا على وجهه؛ ملامحه تعبر عن الامتعاض والغثيان، فكثرة مزاولة نشاط ما تفقد المرء الرغبة في متابعته، والتجديد ضورة لا مفر منها، أما الدوران في الحلقة نفسها فيولد التقزز والغضب. وقد لاحظت أن الرجل، وهو يفعل ذلك، يحرك شفتيه، فأحدث ذلك في نفسي عجبا، وهو ما أثار اهتمامي أكثر من المشي فوق الماء، بل حتى من رؤيتي له حين يبلغ الجهة الأخرى القريبة من عمله، حيث ينحني ليغير حذاءه بآخر نظيف، قبل ولوج مؤسسة عمله.
حاولت بشتى الطرق أن أعرف بم يحدث نفسه، وتمكنت من ذلك وبصعوبة بالغة كلفتني تعلم لغة الشفاه. ، بهذه الطريقة توصلت لمعرفة ما تضمره نفسه الأمارة بالغضب والثورة على وضعيته الكئيبة، المهم، عرفت أنه يرسل كلمات تشبه دعاء يرمي به أشخاصا محددين؛ كنوع من السحر حين يتلفظ المرء بكلمات مطلسمة تهدف إلى إلحاق الأذى بالشخص المقصود.
منزله يقع في شارع غير مزفت، أي غير معبد، وكلما سقط مطر اهتزت أوتار قلبه، ونزلت من فمه دعوات النجاة، ولعنات على من سك الطرق من غير مراعاة معاناة عباد لله.
تمنى، مجرد تمن، يعرف بنفسه حق المعرفة أنه لن يتحقق، أن يسكن إلى جواره مسؤول واحد لا غير، ليصاحبه في حله وترحاله، ليدرك جمال السير فوق الماء.


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي

  

بتاريخ : 24/11/2017

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *