عرق الحلم

-إلى ذكرى إدريس بنزكري-

كانت ظهيرة قائضة. وكنت مأخوذا بقطرات العرق وهي تهوي من ذقن الحفار وتسقط في التراب. كنت أنظر أيضا إلى الأزهار الطالعة على القبور المجاورة للحفرة التي ستصير قبرا لإدريس.

لا يزال الحفار شابا. ربما يساعد أباه: أباه الحفار الشيخ. وحين سيموت سيحفر له قبره، وستسقط حبات العرق على التراب وتختلط بالطين، وتنبت أزهار. ربما تنبت شجرة أيضا. رغبت حينئذ أن أشاركه في الحفر، لكني لم أجرأ على التقدم لفعل ذلك.
عند الجدار الذي يسورّ الروضة كانت حدَبة معشبة تتوسطها شجرة. بقيت أحدق في الشجرة متقصيا أوراقها لأجد لها اسما… لكني بدل العثور على اسم، رأيت فأسا معلقة على غصن من أغصانها. تركت الناس متحلقين حول الحفرة التي ستكون قبرا لإدريس، واتجهت نحو الشجرة. فعلت ذلك بدافع أقرب إلى الواجب. كان علي أن ألتقط الفأس، وأن أحفر مباشرة تحت الشجرة.
شرعت في الحفر. أحس وأنا أحفر أن ظلي على التراب هو ضالّة الفأس. التراب طينة رخاء، وأنا من خوفي أطمع أن يصير الطين أكثر صلابة، أو أن تظهر أحجار تمتحن الفأس، وتفلّ سنّه. لكن التراب يصير بالتدريج أكثر رخاوة ولينا. تتاعبْتُ وتخاملت، لكن قواي لم تساير تخاملي؛ أجد جسدي قويا يافعا كجسد حفار محترف، وأجد روحي في الجهة الأخرى مرهقة أسيانة. لكني لم أعرق. لو فقط أعرق. كان الخوف سيتضاءل، سيعوض بشيء آخر، كالإحساس بالعطش أو بالتعب. مسحت بكفي على جبهتي لعل حبات تكون قد نزّت من المسام، وظلت عالقة؛ لكن لا شيء. أجهدت نفسي (أو أجهدتني نفسي) في الحفر- لا لأحفر فعلا- وإنما لأعرق. وكانت الشجرة واقفة أمامي كأنها تتفرج. ومرت هبّة خفيفة، فسمعت كركرة الأوراق… ولا قطرة. وتساءلت مستغربا لِمَ لَمْ يهتمَّ بي أو ينتبهْ إليّ أحد. فكرت أنهم منشغلون عما أفعل، بقبر إدريس. وتساءلت: «قبر من أحفر أنا الآن. وهل ما أحفر، الآن، قبر؟».
حين انتبهت إلى صنيعي كان ما حفرته قد صار شيئا أوسع من حفرة، أقرب إلى مدخل نفق. ورأيت الناس يأتون من كل فج، ويدخلون فيه متدافعين عرايا. ما كنت أعرف كيف يدخلون، ولكني أراهم يفعلون ذلك. تمنيت في لحظة أن ينقطع سيل الداخلين لكن ذلك بدا لي، وأنا أسرح نظرتي في الأفق، أمنية بعيدة المنال.
ألقيت بالفأس عند جذع الشجرة، وخرجت من المشهد باحثا عن قبر إدريس… ما عاد هناك أثر في الأرض حولي، لقبر طري، وتشابهت علي القبور…
في طريق الخروج من الروضة رأيت عند الباب امرأة جالسة على حجر. اقتربت حتى وقفت عندها.
– إنهم يدفنوني، قالت، كل شيء على ما يرام.
– لقد ارتحتِ الآن.
– لكن أليس مقرفا أن نموت مدى الزمن، أن نقضي ما تبقى من الزمن موتى. أما قالت لك الكتب كيف نموت مرة أخرى وأخرى؟…
– لقد ارتحتِ الآن.
وبقيتُ صامتا فسألتني:
– هل تعرف أين يوجد قبر بن عبد الكريم؟
لكن، أنا لم أكن أعرف.
وحين وضعت رجلي خارج الروضة، وجدتني غارقا في العرق…


الكاتب : مصطفى جباري

  

بتاريخ : 02/08/2019

أخبار مرتبطة

  رن الهاتف ، كنت في الحمام مستمرئا الدوش الفاتر، تلففت بفوطة، شربت كوبا من محلول عشبة اللويزة، موطئا لنوم

  جلست على شاطئ الحيرة أسكب المعاناة على الورق، وأشكل أمواج الغضب، تطاردها الجروح ويرافقها السؤال واحد يدعي الحضور! على

الحياة التي نحارب من أجلها… الحياة التي نمارسها أمام العلن… والحياة التي نتمنى أن نعيشها… لا علاقة لها بما نعيش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *