فرحاتي من «شاطئ الأطفال الضائعين» إلى «شاطئ الأزواج المنسيين»

 

تم مساء يوم الأربعاء 5 دجنبر 2018 تكريم المخرج المغربي جيلالي فرحاتي في الدورة 17 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش مع عرض آخر أفلامه (التمرد الأخير).. وقد بدا التأثر بالغا على محيى جيلالي الذي لم يستطع أن يكبح دموعه ويهدئ من روعه إلا بعد لحظات وقفت فيها القاعة تصفيقا، تهليلا وزغاريد.. أدلى بكلمة أثيرة من أهم ما ورد فيها: «السينما من أجمل الأكاذيب لقول الحقيقة»

1 – حس حنيني واجتماعي
تناسل وتتفاعل أحداث الحكاية والتي وإن اتخذت من العلاقة الحميمية بين النحاث أيمن والشابة وفاء محورا يتداخل لافيها الحاضر بالماضي، والخيال بالواقع المعيش، اجتماعيا وسياسيا منذ اعتقالات سنوات الرصاص التي قضى أيمن بسببها سنوات في السجن، ولازال تأثيرها ساريا في عدد سلوكاته أبرزها دخوله تحت «الدش» بملابسه حيث فسر لوفاء أنه لما كان بالسجن وكبقية السجناء، كان يستحم بملابسه مغتنما فرصة وجوده تحت الماء والصابون لغسلها.
وهكذا حبل الفيلم بحس حنيني واجتماعي يقارب التصدع العائلي بسبب وفاة الأب وخروج الأم اإلى أن تلقى مصرعها على إثر شجار شب بينها وبين ابنتها وفاء.. أو بسبب وفاة طفل غرقا أصيبت على إثره الأم «سُهى» بفقدان الذاكرة، ليبقى الأب «أيمن» وحيدا يعاني بين تلافيف «ذاكرته المعتقلة» ومنحوتاته الخرساء، من غير أن يمنعه هذا من أن يعيش علاقة حميمية مع فتاة تصغره ب 35 سنة دون أسف أو عقد، فتفادي الجيلالي فرحاتي تبئير الإشكالية التي تندلع حين يحب ويعشق رجل متقدم في السن فتاة تصغره على الأقل بمنتصف عمره! فيقع ضحية صراع بين قلبه وعقله. بل إن أيمن احتوى هذه الإشكالية فكان يعيش مع حبيبته بالعرض والطول والعمق.. يخرج ويسهر معها وفي الأماكن العمومية.. فهي حياة طبيعية وسليمة بين رجل وامرأة يحبان ويعشقان بعضيهما، وكأنه غير متزوج. كما يقوم بواجبه نحو زوجته بأداء واجبات تطبيبها، عيادتها، وإخراجها للفسحة ومناولتها الدواء في حينه… وكأنه غير مرتبط بعلاقة حميمية مع امرأة أخرى.

2 – عبوة حنينية
(التمرد الأخير) عبوة حنينية كاتمة للصوت من جيلالي فرحاتي، تنطلق من عدة قضايا مترسبة في وجدانه، طرحها في قالب هو إلى الشاعرية الواقعية أقرب.. منها ما عاناه هو شخصيا كفقدانه لابن صغير له في حادث سير مروع، والذي يحيل على فقد أيمن لابنه الصغير أيضا (آدم) غرقا، فظل دائما حاضرا في تمثال طفل نائم مغطى بلحاف أزرق وفي يده منديل بنفس اللون، لون الماء/البحر.. هذا اللون الذي تتعاطاه والدته سُهى – الساهية لكل شيء إلا ولدها – حيث تملأ كتبها بمناديل زرقاء وتلبس الأزرق وتفر إلى البحر…
حنين فرحاتي تجسد أيضا في ارتباطه بشاطئ طنجة والبحر عامة والذي قلما خلا منه فيلم من أفلامه، بدءا من (شاطئ الأطفال الضائعين) مرورا ب (ضفائر) و(الذاكرة المعتقلة) إلى (التمرد الأخير) حيث أطر شاطئ المدينة وكورنيشها من عدة زوايا وفي أوقات متباينة: صباحا، نهارا، مساءا ووقت الغروب.. ثم ليلا ودائما بشاعرية في التصوير تتماشى والطرح الفكري كما النفساني للشخوص في تفاعلهم مع الأحداث، علما بأن إدارة التصوير كانت من توقيع الذي الإسباني لوكا كواسين…
وقد طغى اللون الأزرق في كثير من المشاهد والأكسسوارات بما فيها بعض فساتين سُهى، كما جدار البيت الذي طلاه أيمن كله بالأزرق لاستقبالها بعد مغادرتها لمستشفى الأمراض العقلية.. ساهمت في تزكية هذا اللون وتأثيره الوجداني، الموسيقى التصويرية التي وقعها الأخوان علي وحسن السويسي.. والتي تحيل على موسيقى البلوز الأنكلوساكسونية بما لها من تأثير شجي، اعتمد فيه بالخصوص على بيانو وعزف كمان كبير «violoncelle» برز في عدد من المشاهد ضمنها مغازلة وفاء لتماثيل أيمن، لا سيما في المشهد الأخير حيث أصيبت بشبه نوبة هستيرية بع أن لطخت جسدها كله بالجبص الأبيض وغطت وجهها بقناع بنفس اللون فغدت كإحدى إحدى إلاهات الإغريق.. ثم انخرطت في جذبة «كاتارسيزية» اختلط فيها البكاء.. بالصراخ والرقص في محاولة يائسة للتطهر من ذنب اقترافها جناية قتل – عن طريق الخطأ – لوالدتها. أدت الدور وبتحكم جلي وإقناع مستحق،المخرجة الشابة كنزة صلاح الدين إلى جانب المخرج حكيم نوري الذي اعترف فرحاتي بـأن حكيم كممثل «غول» لمن يحسن التفاهم معه وإدارته. بنفس التحكم أدى فريد الركراكي دور تاجر التحف وصديق أيمن الذي لم يتخل عنه…
وفي الختام تضع الإشكالية حدا لنفسها بنفسها، تبعا لتفاعل الأحداث التي تجاوزت أيمن فيضم حبيبته ضمة قوية يفرغ فيها كل ما حمله لها من حب وعطف وحنان – وهو يبكي – قبل تسليمها لرجلَيْ الشرطة اللذين جاءا لاعتقالها.. لينتهي الفيلم بزوجته سُهى تتمشى مرة أخرى بمحاذاة البحر وهو وراءها.. تؤطرهما الكاميرا عن بعد بلقطة عامة يبدوان فيها تائهَيْن، منبوذَيْن، منسيَيْن.. قبل أن تتجمد الصورة ليصعد جينريك النهاية محولا الشاطئ هنا إلى: «شاطئ الأزواج المنسيين»!!


الكاتب : مراكش: خالد الخضري

  

بتاريخ : 10/12/2018