فيلم «الجاهلية» لهشام العسري: ترويض اللغة السينمائية

فيلم «الجاهلية» لهشام العسري من الأفلام التجريبية التي تستفز وتخترق أفق المتلقي وتجعله أمام تجربة جمالية وعاطفية مختلفة وفريدة، وتمنحه أفق التفكير ورؤية ما وراء الحدود التقليدية للعالم المادي. صحيح أن هذا النوع من الافلام غالبا ما يستعصي على الفهم، لأنه يفرض على المتلقي عدم الاكتفاء بالبحث عن المعنى والدلالة ولكن أيضا الكشف عن المعنى الثالث بالمفهوم البارثي، أي البحث عن  المعنى الذي لا يتوقف عند حدود الوصف والتفسير أو عند المعنى الدلالي والرمزي بل يتجاوز حدود اللغة ويتعالى عليها..

 

في تعليق أولي على فيلم «الجاهلية» للمخرج «الإشكالي» هشام لعسري، قال الناقد السينمائي، سعيد المزواري: «ثمّة علامة لا تخطئ تنبئني بأنّ ما شاهدته للتّوّ سينما وسينما خالصة، هي أنّني أكون في حاجة ملحّة للمشي بعد خروجي من القاعة. وقد مشيت كثيراً بعد مشاهدتي «جاهلية» لهشام العسري هذا المساء ولا زلت تحت وقعه حتّى هذه الأثناء.
الأربعون دقيقة الأخيرة من الفيلم ستظلّ من بين أكثر اللّحظات جسارةً وشعريةً (رغم قسوتها) وصدقاٌ من بين كلّ ما شاهدته في السّنوات الأخيرة.
نتحسّر فقط أنّ الفيلم لا يفصح منذ البدء عن كنهه ولا يعدّنا إيقاع نصفه الأوّل بما يكفي لتلقّي ما سيأتي. لكنّ العسري لن يكون هو العسري إن وجدناه حيث ننتظره».
وبالفعل لقد دأب العسري، منذ فيلمه الطويل الأول «النهاية»، على إنتاج أفلام خارج التوقع، ذلك أنه توقف عن التعامل مع السينما باعتبارها صيغة حكائية، وهذا ما جعله يقدم «سينما مضادة»، ومنشغلة بالبعد البحثي، على المستوى السينمائي والحكائي، ومتحيزة للتركيب و»الضم» بين تعبيرات مختلفة كالأدب والسينما والمسرح والتشكيل والموسيقى، بحثا عن الإحساس.
ولهذا يطرح العديد من النقاد هذا السؤال: «لمن يصنع هشام العسري أفلامه؟»، وهو سؤال رافق جميع الأفلام التي أنجزها.
ويرجع هذا السؤال إلى الاعتقاد الذي يحمله مجموعة من النقاد من أن هشام العسري «فنان تشكيلي». لكنه يرد بقوة على ذلك بقوله: «قالوا عني إن أمارس التشكيل، لأنه كان من السهل عليهم وضع ما أقوم به في خانة معينة. غير أنني كنت أجد أنه من المهم أن نمزج بين الإنجاز والتشكيل والمسرح. فأنا أشتغل كثيرا على المسرح في كتابتي السينمائية، وحتى في طريقة التصوير».
يقول عنه الناقد السينمائي المصري أحمد شوقي: «أفلام هشام تزخر بالإشارات الثقافية والسياسية، وسردها الحداثي الذي يمزج عناصر الحكي بالفن البصري، ويستلهم من حاضر المغرب وماضيه مادة لأعمال هي دائمًا أكبر من أن تُختصر في حكايتها، شأن الأفلام الكبيرة عمومًا».
ويضيف: «من حق أي فنان بالطبع أن يعمل بالطريقة والإيقاع المناسبين له طالما وجد تمويلًا لأفلامه، لكن السؤال الذي يشغلني دائمًا عند متابعة مسيرة هشام العسري هو: لمن يصنع هذا الموهوب أفلامه؟ (…) يكاد الزمن الفاصل بين أعماله السينمائية يقول إنه لا يفكر كثيرًا فيما قدمه قبل البدء فيما يليه. إيقاع عمل يمكن تشبيهه بعمل الرسامين والتشكيليين، عندما تسيطر عليهم فكرة أو ينتهجون أسلوب، فيرسمون عددًا ضخمًا من اللوحات على التوالي يمكن اعتبارها معًا مجموعة أو مرحلة في حياة الفنان».
إن سؤال: «لمن يصنع هشام العسري أفلامه؟» يظل ذا أهمية إذا علمنا أن سوء الفهم الكبير قد يعتري حتى بعض النقاد الذين لا يستسيغون هذا النوع المتفرد من السينما، إلى درجة أن ناقدا مثل خالد الخضري لم يتحرج من القول: «عهد تحملنا للأفلام المغربية والتي أطلقنا عليها في مستهل ثمانينيات القرن الماضي نعت «التجريبية» قد ولى.. وتساهلنا مع مخرجيها بل وشجعناهم على الاستمرار من أجل تحصيل تراكم كمي فيلموغرافي كان ينقصنا في سبيل فرز تراكم كيفي طبعا»..
ويعلن الخضري تخوفه على هشام العسري، «الذي يمتلك- كما يقول- أدوات فنية وتقنية متميزة كما شهد بلك زملاؤه الحرفيون من مخرجين وتقنيي الصورة والإنارة والصوت كما النقاد»، من الاستمرار في هذا النهج التجريبي، بل يذهب أبعد من ذلك حين يعلن سخطه على الفيلم، داعيا إلى «إبعاده» من السينما، فيقول:
«حبل بعدد من اللقطات الإباحية وغير الموظفة، إذ لو كانت ذات وظيفة معينة في السياق الدرامي للأحداث لا يمكن الاستغناء عنها، لوجدنا تبريرا لتصويرها والإبقاء عليها في الفيلم.. منها على سبيل المثال:أول لقطة تستهل به «جاهلية» امرأة عارية يظهر طرفها العلوي وهي تمارس الجنس فوق شخص أو شيء ما؟ – هنا فوق الكاميرا – حيث يتدلى نهداها وهما في حالة حراك مستمر إلى أن تتوقف صاحبتهما ويخمد الهيجان، لتبدو في اللقطة التالية مستلقية على ظهرها عارية تماما، دون الكشف عن وجهها.. لكن جهازها التناسلي شبه مغطى برأس الممثل عبد المالك أخميس؟! ثم تبدأ أحداث أخرى أهم ما يربط بينها هو الشتات.. تتخللها مصطلحات سباب نابية.. والطفل الصغير (الحزين) – حوالي 10 سنوات – يتبول أمامنا – أمام الكاميرا – ما سكا بقضيبه هكذا عَلَنيا، أي بعبارة أخرى يتبول علينا…
فهل لكوني ناقد سينمائي يجب علي أن أتقبل أي منتوج سينمائي مغربي حتى وإن ضايقني ولحد الاستفزاز؟».
وعلى العكس من هذا الطرح، يذهب آخرون إلى أن هشام العسري غير مهتم بتقديم سينما نظيفة، بلسينما تتغيى استقزاز التصورات النظيفة، ذلك أن في فيلم «الجاهلية»، وفي السينما التي يقدمها هشام العسري، «ثراء بصري ودلالي، وسخرية مريرة، وقصص متجاورة ومفكّكة لكنها ساخرة. سوريالية تحاكي الواقع بشكل مبالغ به كي تصدم المتلقي».
يقول الناقد بوعزيز: «يحكي هشام العسري قصّة لحم وحذاء ودمية. من خلال هذه «الأيقونات» الـ3، نكتشف أشكال «الحقرة» في المجتمع المغربي. مجتمع يطبِّع مع العنف اليومي، إلى درجة لم يعد يلاحظه. فـ»الجاهلية» فيلمٌ عن بشر «حقار»، حيث الفرد يستعلي على من هو أقلّ منه، ويسحقه كخنفساء. «الحقرة» (أو «الحكـرة») مصطلح سياسي متدَاول في شمال أفريقيا، تسبّب في احتجاجات كثيرة. في «الجاهلية»، كلّ واحد «يحقر» ويلتهم مَنْ تحته، كما في السلسلة الغذائية الطبيعية. تنتهي السلسلة لدى بطل الفيلم (حسن باديدة)، الذي «يحقر» على دجاجة. البطل عامل مقهور ينفّذ أوامر شخص يحتجز زوجته كي لا تهرب مع صديقتها. في لحظة غضب وعجز أمام ابنه، الذي يطلب اللحم، «حقر» دجاجته. النتيجة أن المشاهدين «الحقار» يحزنون على الدجاجة، بينما يموت 10 مغاربة ويجرح مئات منهم يوميًا في حوادث سير.
هذا العنف الفادح تُبرزه كاميرا هشام العسري بشكل عبثي. المحتوى السياسي للّقطات مستَفِز. يفكر المخرج أن مهنته بالكاميرا، لذلك لا يقدِّم الخام. واضح أنه لم يُشفَ بعد من تصفية حسابه مع عهد الحسن الثاني».
إن هذا النوع من السينما دأب عليه هشام العسري منذ أفلامه أفلامه القصيرة «وشم العذاب» (2002) «على جناح» (2004)، «بخط الزمان» (2005)، «محطة الملائكة» (2009). وتعزّز هذا المنحى المفارق، بسلسلة من الأفلام الروائية الطويلة: «النهاية» (2011)، «هم الكلاب» (2013)، «البحر من ورائكم» (2014)، «ضربة في الراس» (2017)، «الجاهلية» (2018).
هذا التراكم أثبت أن للمخرج هموماً سينمائية ومشروعاً شخصياً عازماً على تحقيقه، ولذلك يخوض معركته مع الكاميرا، يروّضها، ويسائل لغتها، ولا يكتفي أبداً بما تقدمه له.
ويمكن القول إن تجربة العسري تحمل بصمة خاصة، تميزها عن كثير من تجارب السينما المغربية. تجربة ترسم سحابة قاتمة للواقع العربي، تريد أن تسائله عن وجهته. من أبرز ما يلفت الانتباه في أعمال هذا المخرج الشاب هو حرصه على كتابة نصوص أفلامه بنفسه.
إنها بتعبير الناقد الفني والباحث في الصورة عبد المجيد سداتي: «سينما بديلة، سينما حرة، سينما مستقلة، سينما تجريبية، سينما طليعية، لأنها سينما لا تخضع للشروط المؤسساتية للإنتاج المتعارف عليها ولا لمزاج المنتجين ولا لمنطق السوق التجارية ولا لقانون التوزيع والترويج التي تحظى بها السينما الكلاسيكية او السائدة. سينما لا تخضع عموما لسلطة المال وهذا ما يتيح لمخرجيها هامشا أكبر في حرية التعبير والإبداع. سينما تستمد قوتها وتجد ذاتها وملاذها في المهرجانات والملتقيات والتظاهرات السينمائية وفي دور الثقافة والفضاءات البديلة والمتاحف والجامعات وفي الأندية السينمائية وفي المواقع الالكترونية».
إنها السينما التي تعيد النظر في قواعد اللغة السينمائية السائدة من خلال تكسير البني السردية الكلاسيكية والتشكيك في الاستطيقا عموما (الاشتغال على الوسيط السينمائي نفسه وعلى المونطاج وتشويش الصورة والصوت الى غير ذلك) . سينما تعتمد البحث والتجريب بل والتجريد أيضا، و تولي أهمية قصوى للبعدين الشكلي والتشكيلي. يشكل الفضاء والزمن العنصران المهيمنان على تفكير وطريقة اشتغال مخرجي هذه السينما أكثر من الاشتغال على الممثل الذي تؤسس عليه السينما الكلاسيكية جماليتها، حسب ما يؤكده الباحث سداتي.


بتاريخ : 12/10/2018