قراءة جمالية في «يوميات معلم في الجبل» لعز الدين الماعزي

«يوميات معلم في الجبل» لعزالدين الماعزي هي تاريخ حياة، يحكي ذاكرة فرد له خصوصيته الثقافية، هذا الفرد هو الشاعر والقاص عضو نادي القصة القصيرة المكتب المركزي سابقا، عضو اتحاد كتاب المغرب، صدرت له مجموعة من المؤلفات من بينها «يوميات معلم في الجبل» الجزء الأول سنة 1998 والجزء الثاني سنة 2003، هذا الجزء الثاني هو الذي سنحاول أن نقرب القارئ من أحداث ووقائع القاص الماعزي في الجبل من خلال محاولاتنا لفك رموز سيرته الذاتية.
«يوميات معلم في الجبل «، هي سيرة حياة في الجبل للماعزي الشاعر يعرض تاريخه بطريقة سردية كما عاشه، الراوي يمتلك الحرية في تشكيل الحقائق التي عاشها وفي تفسيره لها وتم نقل هذه الذاكرة من قبله من خلال تمثيل أمين للحياة، بهدف محاولة إيصال القارئ “للعالم ”المعيش كما هو في الجبل من خلال فرادة معرفية لمنهج السيرة الحياتية في تصويره للظواهر الإنسانية على أنها ظواهر متمثلة ثقافيا وزمانيا في شكل بناء الهوية الفردية، في نمط المسارات الاجتماعية وفي التغيرات الثقافية كذلك، يمنحنا القاص في سيرته الحياتية معاني لا يمكن فهمها إلا من خلال جهد خاص يأخذ في الحسبان، في الوقت عينه، طبيعة الشخص الإنسانية بالتوازي مع طبيعة معنى هذه الاحداث المعاشة، كونه معلما عانى التنقل، عانى الأسفار، عانى الوحدة…
«يوميات معلم في الجبل» في محتوياتها تضم شهادة للأستاذ أحمد بوزفور وثلاث عشرة يومية سنحاول عرض يومياتها للقارئ من خلال قراءة جمالية لمتونها.
تكشف هذه السيرة الحياتية حياة عز الدين الماعزي في الجبل من خلال سرد مجموعة من الأحداث والوقائع المترابطة في ما بينها، والمتباعدة من حيث الأمكنة التي دارت في فلكها أحداثها، يغلب عليها طابع البوح بأحاسيس عاشها بذات المنطقة والتعبير عن وقائعها وفضاءاتها وعناصرها الثقافية بكل تلقائية كما قال ذ. أحمد بوزفور، أي أن القاص تجاوز في يومياته معاناته الاجتماعية والخارجية إلى البوح بخصوصيات حميمية وعاطفية بلغة شاعرية محضة، انتقى فيها زمرة من الأساليب المجازية البلاغية لإضفاء طابع جمالي على سيرته.
«يوميات معلم في الجبل» أماطت اللثام عن وجدان الشاعر الماعزي بالرغم من أنه حاول الاختباء وراء اللغة إلا أن شاعريته فضحت المستور وجعلت من سيرته تناسقا كاملا من حيث الموضوع والبنية.
اليومية الأولى: ليلة أحواش

يصف الشاعر ماعزي العزلة التي اكتنفته والتيه والتردد اللذين يخالجانه حول مكان تعيينه من خلال تصوير وقت الانطلاق عبر حافلة آيت مزال وهي تدبّ بين منعرجات الطريق انطلاقا من الصويرة، مشبها إياها بنشيد حلزون أستاذ مدرسته التطبيقية، وهنا يعرض لنا تداخل اللامكان مع المكان في عرض وصف أجواء سفره.
«..انطلاقا من الصويرة تدب بين منعرجات الطريق كنشيد حلزون أستاذ المدرسة التطبيقية الذي يستقبلنا به دائما لا نعرف هل هو شماتة فينا أم شيء آخر، الأكيد أنه كان بارعا في تصوير واقع وتفاصيل حياة…»
هنا القاص يخرج من الأحداث ويصور لنا شخصا آخر، كأن القاص غير مشارك في الأحداث، أي بمعنى آخر تدخل شخصية أخرى في المتن الحكائي، أحيانا يصف بخارج من الأحداث وأحيانا أخرى نجده ذاتا مفتعلة تتلولب حول نفسها.
اليومية الثانية:عزف منفرد خارج الذات.
في هذا الفصل يصور الكاتب تجربة حياة أخرى رفقة أصدقائه، تجربة ظلت لصيقة بالأشياء المسكوت عنها من جنس وخمر وتدخين، يصفها الشاعر ببوح وكأنه يعرض قصة ذاع صيتها بين العامة والجميع، تجربة تعلم فيها ما ينفعه من تحضير ماء الحياة «الماحيا» حيث النساء هناك ولابد من تسخين الرأس.. تعلم رفقة أصدقائه كيفية صنع «الماحيا» واعتبرها الساعات الجميلة التي كان يقضيها في الوادي مقارنة مع حجرات الفصل.
«…يزداد الضجيج كلما كان العنصر النسوي حاضرا الذي يعتبر قطعة نادرة وباهظة الثمن.. ليلة واحدة مع أنثى تستنزف جيوب الحوالة المثقوبة بقرب المصاريف الأخرى…»
تعلمت- يحكي الماعزي- كيفية تحضير الماحيا رفقة صديقي المراكشي وجندي مهزوم الانتظار.. الساعات الجميلة هي التي كنت أقضيها في الوادي…
اليومية الثالثة:سوء الحظ

1- يسرد عز الدين حالة الضعف التي أحاطت به وسط أصدقائه، يصورها من جانبين اثنين، جانب متعلق بما هو إداري وتربوي وآخر متعلق برفاقه وما يعانيه من احتراق نفسي جراء تحرش أصدقائه به ، ومحاولة الاستيلاء على ما تبقى من نقود في جيوبه المثقوبة كما يصفها، هنا وجد نفسه أمام حالة ضعف يحاول الانفلات من قبضتها ولا ملجأ إلا الصمت.
ينتقل بنا هنا الى وصف شخصية أخرى رضعت معه من نفس ثدي المعاناة، هو لجأ الى الصمت كحل سخري بتعبير فريدريك نيتشه، وهي لجأت الى أبيها التي أعادها الى مقر عملها مستنجدة به من أجل الخلاص، إلا أن حل الأب كان في صالح الماعزي كون النساء عملة نادرة هناك.
ينقل لنا كلام الأب قائلا: بنيتي…إذا كنت سترافقين هذا المعلم في هذه الغربة والوحشة وظلمة الفرعية وأقاويل الناس، فخير لك أن تتزوجيه…
تذويب الجليد.

يحكي الشاعر هنا عن لحظات الخلاص من ذكرياته التي كان يدفنها في الجبل، في اللحظة التي كان المكان ممتلئا بالناس وكأنه يودعهم، دفن ما تبقى من ذاكرته.. من كتب، صويرات.. كل الأشياء التي كان يفعلها حتى طرقعة الأصابع، كأنه يريد الخلاص حتى من نفسه التي سلط عليها المعاناة في مقر عمله لدرجة أنه صور الحوار الذي دار بينه وبين الجبل في المنام، حتى الحلم لم يخل من المجاز.
اليومية الرابعة: جنون الخيبة

ينقل لنا القاص في هذه اليومية صورة حية عن الآخر الغريب والعلاقة التي تربط بينهم كمعلمين، حيث عبر عن ذلك الآخر الغريب ب عبارة « لا ندري شيئا عن الخارج…»، متخذا من أسلوب الاستعارة منطلقا له لتقريب الصورة بشكل أوضح.
تارة يصف لنا الشخص الغريب وهو مقدم الدوار والدافع وراء مجيئه إلى مكان اشتغالهم، ثم الحالة التي أصبحوا عليها إزاء قراءة ملامح هذا الأخير ومطابقتها لتخميناتهما كونهما كانا يقومان بأفعال رفقة زميله خارج إطار القوانين المعمول بها من حديث مع فتيات وغياب ومطالبة التلاميذ بإحضار الخبز والماء.. ثم الكتابة بالجرائد التي كانت محظورة ذات وقت، بالإضافة إلى القيام بأفعال وسلوكات أخرى لا تتماشى مع سلوكات المجتمع، متمثلة أساسا في « فتخ جوانات».
ينتقل الشاعر الماعزي الى تصوير مشهد آخر رفقة زميله، هذا الأخير يحضر تحاضيره اليومية من جذاذات، بينما القاص ظل يستمتع بأغاني ناس الغيوان مع تحضير فنجان قهوته، ليبين أن هذه الأشياء التي كانوا يقومون بها ما هي إلا وسيلة للتنفيس.
يقول الماعزي «..كل الأشياء كانت طاقة للتنفيس وإذابة جليد الأحزان المتكرر…»
اليومية الخامسة: ثكنة العودة

يرسم الشاعر هنا معاناة العودة والتخلص من جحيم الغربة، ومعاناة صديقه العاطفية مع ليلى الشخصية التي سكنت زميله دائما على إيقاع ناس الغيوان، ويتساءل في نفس الوقت عن كيفية مضي الوقت بسهولة، الشاعر هنا في حيرة تامة، بين العودة وبين من يؤنس معاناته من برودة سرير.
يقول السارد وهو يحاور صديقه: «هذا المكان يحتاج الجسد فيه إلى أكثر من بطارية للشحن، يحتاج إلى أنثى.. «
إذن الشاعر هنا أعطى قيمة كبرى للنوع الاجتماعي وإلى الجسد وما يحتله من مكانة اجتماعية داخل المجتمع. وأثناء طريق العودة صادف المخلص القادم في طريقه الذي سيخلصه من معاناة الكبت، ويحقق له أمانيه النسائية، لكن النساء في هذه الحالة من نوع آخر غير الذي اعتاد عليه المعلم، «الزريقة» كما يحلو لصديقه تسميتها «الباستيس».
هنا الماعزي سيدخل حالة أخرى من القلق والغضب كونه انتظر ما انتظر..
يصف هنا بأسلوب فني الأنثيين اللتين كان ينتظرهما وهما أمامه على شكل قنينة خمر.
يصف القاص هنا المشهد بصورة جمالية أكثر من رائعة كون الأنثيين عملة نادرة.
«…الأنثى الأولى تنظر إلي بعينين ثقيلتين من كثرة الشرب وعذاب الإنتظار الممل إلى ما يسد الرمق ونتونة الصدأ، والأخرى مرحة أكثر من اللازم رشيقة كطعم الأركان، تقشرت أمامنا ورقصت ممزقة على إيقاع گناوة وأحواش.. «

اليومية السادسة: تمورغي»الجراد»
أو ليلة العشاء الماقبل الأخير

في هذه اليومية يسرد الكاتب تمزق ذاته والحرب الداخلية أو الصراع الداخلي بذاته تجاه فعل الكتابة، كونه لم يعد يبالي بالمعرفة، وبين صراع خارجي مع ذوات أخرى متمثلة أساسا في تلاميذه كونهم كانوا يريدون الخلاص منه والزج به مكان الموتى الذي يجاور مقر عمله، كونه نسج علاقات شبه حية مع موتى المقبرة حيث يعثر على ضالته هناك في التأمل، بعد حين عاد القاص وهو يصف أجواء جمع تمورغي في أكياس مشيرا إلى وقتها بالذات وهو المساء : «…رفقة صديقي إبراهيم في طاطا وعلى مشارف دوارهم رأيتهم يسرعون بجمعها في أكياس قبل أن يحل المساء…».


الكاتب : عبد الباسط أبا تراب

  

بتاريخ : 10/12/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *