قصائد الشيوخ في‮ ‬السنغال‮.. ‬أوراد تتلى آناء الليل وأطراف النهار‮ ‬

 

‮ ‬في‮ ‬واحد من تجليات المسحة الصوفية التي‮ ‬تميز نموذج التدين الإسلامي‮ ‬بالسنغال،‮ ‬يبرز الإقبال منقطع النظير لساكنة هذا البلد على حفظ وتلاوة القصائد الدينية التي‮ ‬خلفها شيوخ الطرق الصوفية،‮ ‬حتى إنها صارت بمثابة أوراد‮ ‬يتقرب بها الملايين من الأتباع لربهم فهم‮ ‬يتلونها آناء الليل وأطراف النهار‮.‬
وسواء تعلق الأمر بالعاصمة دكار،‮ ‬أو مدينة توبا،‮ ‬مهد الطريقة المريدية،‮ ‬أو باقي‮ ‬المدن والقرى السنغالية،‮ ‬فإن تلاوة وإنشاد القصائد التي‮ ‬ألفها الشيوخ بهذا البلد،‮ ‬وعلى رأسهم مؤسس الطريقة المريدية،‮ ‬الشيخ أحمدو بمبا‮ (‬توفي‮ ‬سنة‮ ‬1927‮)‬،‮ ‬تحولا إلى طقس راتب في‮ ‬مختلف التظاهرات الدينية،‮ ‬تتغنى بها حناجر المريدين،‮ ‬وينتظمون لأجلها في‮ ‬جلسات الوعظ وحلق الذكر التي‮ ‬يتواصون فيها بالحق وبالصبر‮.‬
وإذا كان زوار دكار من الأجانب‮ ‬يتساءلون عند حلولهم بالمدينة أول مرة عما‮ ‬يتناهى إلى مسامعهم من أصوات مغناة تصدح بها المكبرات في‮ ‬مساجد المدينة وأزقتها فتحيل الفضاء العام برمته إلى جو مفعم بالروحانية،‮ ‬فإن الجواب‮ ‬يأتيهم سريعا أن الأمر إنما‮ ‬يتعلق بهذه القصائد التي‮ ‬تتناقلها الأجيال وتساهم بشكل قوي‮ ‬في‮ ‬التنشئة الاجتماعية للأبناء‮.‬
وتكفي‮ ‬نقرة واحدة على خانة البحث في‮ ‬موقع‮ (‬يوتيوب‮) ‬لتفتح للمشاهد الباب وسيعا أمام حجم الاحتفاء الذي‮ ‬يوليه السنغاليون لقصائد الشيخ أحمدو بمبا على سبيل المثال‮. ‬وبتأمل بسيط في‮ ‬مضامينها،‮ ‬يرصد السامع قيم الحب والخير والجمال التي‮ ‬تروج لها الطرق الصوفية في‮ ‬هذا البلد‮ ‬غرب الإسلامي،‮ ‬وحجم الود الذي‮ ‬يكنه أتباعها للنبي‮ ‬الأكرم عبر التغني‮ ‬بمديحه وشمائله‮.‬
‮»‬مقدمات الأمداح في‮ ‬مزايا المفتاح‮»‬،‮ ‬و»جذب القلوب لعلام الغيوب‮»‬،‮ ‬و»مواهب النافع في‮ ‬مدائح الشافع‮»‬،‮ ‬و»جالبة المراغب‮»‬،‮ ‬و»جاورت بالفرقان‮»‬،‮ ‬و»مطلب الشفاء‮»‬،‮ ‬وغيرها كثير،‮ ‬كلها قصائد‮ ‬يتغنى بها أتباع الطريقة المريدية في‮ ‬جلساتهم التي‮ ‬تكون أسبوعية أو نصف شهرية‮. ‬وهي‮ ‬قصائد مطبوعة بشكل منفصل في‮ ‬كتيبات مختلفة الاحجام بحيث‮ ‬يسهل حملها على المريد‮.‬
وتنعقد هذه الجلسات في‮ ‬المساجد أو في‮ ‬الشارع العام،‮ ‬وتتميز بجلوس المنشدين في‮ ‬حلقة دائرية،‮ ‬يتلون القصائد فرادى وجماعات،‮ ‬قد تنضاف إليها مداخلة لأحد الوعاظ لتفسير مضمون هذه القصائد أو لتقديم درس ديني‮ ‬أمام الحاضرين‮.‬
ويقول الطالب الجامعي‮ ‬بسلك الماستر،‮ ‬عليو‮ (‬24‮ ‬عاما‮)‬،‮ ‬وهو أحد أتباع الطريقة المريدية،‮ ‬إن‮ «‬قصائد الشيخ أحمدو بمبا تشكل بالنسبة لنا،‮ ‬بعد كتاب الله وحديث نبيه الكريم،‮ ‬مرجعا أساسيا للحفاظ على هويتنا الإسلامية‮.. ‬نحن نرددها باعتبارها وسيلة لتطهير الروح وتجنب ارتكاب الآثام‮».‬
وفي‮ ‬تصريح لوكالة المغرب العربي‮ ‬للأنباء،‮ ‬يضيف عليو،‮ ‬الذي‮ ‬يحمل في‮ ‬محفظته على الدوام قصائد الشيخ،‮ «‬إن سيرين توبا‮ (‬اسم‮ ‬يطلق على الشيخ أحمدو بمبا‮)‬،‮ ‬كتب هذه القصائد ببساطة من أجل حماية المسلمين عامة والمريديين على الخصوص من الانسلاخ عن دينهم،‮ ‬وتجميعهم على الطريق المستقيم‮».‬
وحسب هذا الشاب الذي‮ ‬ينحدر من مدينة الطائف،‮ ‬ضواحي‮ ‬مدينة توبا المقدسة بالسنغال،‮ ‬فإن لهذه القصائد‮ «‬فوائد جمة‮»‬،‮ ‬فمنها ما‮ ‬يقرب من الله مثل قصيدتي‮ «‬جذب القلوب‮» ‬و»جالبة المراغب‮»‬،‮ ‬ومنها ما هو مخصص للصلاة على النبي‮ ‬الأكرم مثل قصيدة‮ «‬مفاتح البشر‮»‬،‮ ‬ومنها ما‮ ‬يجعل النفس طيبة راضية مثل‮ «‬تحفة المتضرعين‮»‬،‮ ‬ومنها ما‮ ‬يحفل بأدعية التحصين من قبيل قصيدة‮ «‬الصنديد‮»‬،‮ ‬وغيرها كثير‮.‬
وخلص عليو إلى القول إن تكرار تلاوة هذه القصائد‮ «‬يساعدنا في‮ ‬أن‮ ‬يكون لنا قلب سليم وصاف في‮ ‬الدنيا،‮ ‬ويسهل لنا طريقا إلى الجنة بإذن الله،‮ ‬فهي‮ ‬تمتح من مضامين آي‮ ‬القرآن وأحاديث النبي‮ ‬الأكرم عليه السلام‮».‬
وفي‮ ‬تمظهر للاحتفاء والتقدير التي‮ ‬يخص بها أتباع الطريقة المريدية قصائد الشيخ أحمدو بمبا،‮ ‬يأتي‮ ‬تأسيس العديد من الفرق الإنشادية،‮ ‬التي‮ ‬يختار لعضويتها ذوو الصوت الحسن،‮ ‬وتتغنى بهذه القصائد في‮ ‬المناسبات والتظاهرات الدينية،‮ ‬وعلى رأسها مغال توبا،‮ ‬التجمع الديني‮ ‬الكبير الذي‮ ‬ينظم في‮ ‬شهر صفر الخير،‮ ‬ويحتفل فيه مئات الآلاف من مريدي‮ ‬وأتباع الطريقة بذكرى مؤسسها في‮ ‬جو من الخشوع والابتهال‮.‬
والملاحظ أن الشيخ أحمدو بمبا اختار اللغة العربية لكتابة هذه القصائد دونا عن سواها من اللغات كالفرنسية،‮ ‬اللغة الرسمية للسنغال،‮ ‬أو اللهجة المحلية‮ (‬الولوف‮). ‬وهو اختيار دأب عليه شيوخ الطرق الصوفية في‮ ‬السنغال،‮ ‬من أجل‮ «‬تعزيز نشر لغة القرآن،‮ ‬وتحفيز الناس على تعلمها‮». ‬وبالنسبة لمن لا‮ ‬يتقنون اللغة العربية جيدا،‮ ‬فهناك طبعات تضم هذه القصائد مكتوبة واللغة العربية وتقابلها كتابتها بالحروف اللاتينية من أجل تسهيل قراءتها عليهم‮.‬

يشار إلى أنه،‮ ‬وحسب الباحثين في‮ ‬مجال الأدب السنغالي،‮ ‬فإن الشيخ أحمدو بمبا كرس للمدائح النبوية أكثر من مائة قصيدة جمعت في‮ ‬كتاب‮ «‬ديوان الأمداح النبوية والصلاة على النبي‮ ‬الهاشمي‮ ‬عليه الصلاة والسلام‮»‬،‮ ‬فيما‮ ‬يصل مجموع أبيات قصائده‮ ‬30‮ ‬ألف بيت أكثرها في‮ ‬المدح النبوي‮.‬

وتعتبر الطريقة المريدية إحدى أهم الطرق الصوفية بالسنغال البلد الذي‮ ‬استقر فيه إسلام صوفي،‮ ‬وتجمعه قواسم مشتركة ضاربة في‮ ‬القدم مع المدارس الصوفية بالمغرب التي‮ ‬حققت إشعاعا بجميع أنحاء القارة على مدى قرون‮.‬
ومن بين أهم هذه الطرق الصوفية هناك الطريقة التيجانية،‮ ‬التي‮ ‬ينتشر الملايين من أتباعها في‮ ‬مجموع بلدان‮ ‬غرب إفريقيا‮.‬


الكاتب : ‬عبد اللطيف أبي‮ ‬القاسم

  

بتاريخ : 23/02/2018