قصة قصيرة : أمكسا

الرجل الصغير داخل السيارة الكبيرة، هكذا يبدو الحاج م. التهامي، مثل نملة صغيرة تقود هذا «السخط» الكبيرة من الحديد. بدا الأمر مُغريا، فُلك كبير يَمخر شعاب الجبل، كلما التوت الطريق لوى المقود، صالون فسيح مخملي، وعشرات الأزرار والملامس، ووسادة ظهرية تمسد الخاصرة.
عند المنعرج الأيمن المؤدي إلى «تازولت» استهوته الغواية، واستعذب صوت الحصرم ينضغط تحت العجلات الكبيرة، وصوت العيطة يصعد وينزل مع الخطوط الضوئية الظاهرة على لوح القيادة. الحاج م.التهامي مفصول تماما عن الخارج.عبر الزجاج يرى أشجار الشوك المتربة تنسحب إلى الوراء.
الآن يدور الحاج التهامي حول كعبته المُصمتة يائسا، يزفُر ويحملق في المعادلة التكنولوجية الملقاة أمامه، ولا درس من دروس الميكانيك داخل الرأس الجوفاء.
حارَ، تعرّق ، ارتفعت حرارة الرأس المدوّرة، وامتدت اليد إلى الهاتف المعزول، لا شبكة هاتفية هنا يا بن درب عمر. الحاج م. فُصل الحاج تماما عن الخارج.
يبدو «السخط» مثل حوت عملاق ملقى على «شاطئ جبل»، لا حركة ولا نأمة. منظر نشاز، كتلة من الحديد البراق وسط هذا المدى الواسع من حشائش الدوم والحجر المسنن والخوف الصاعد إلى الرقبة . لا تآلف بين العالمين بتاتا.
أثقلته الكرش الكبيرة، وأسرع إلى صندوق السيارة، وتربع على كرسي وسط حشائش الدوم. يبدو الآن مثل مخرج سينمائي وسط هذه المشهد السينمائي الحقيقي.
بعد خمس دقائق ، تحلق حوله رهط من آل «أغولياس» الذين يسكنون الجبل ـ ما يقارب العشرين دارا طينية الصنع ملقاة في هذه البقعة التي لا يعلم بوجودها إلا الله . أبناء عمومة تناسلوا في ما بينهم، وأنشأوا هذه المستوطنة الخارجة عن التاريخ وعن كل إحصاء.
كان الرجل الصغير مجبرا على أن يبتسم، بعد أن أعياه وجوم آل « أغولياس» و هم يدورون حوله، وحول الفيل الأبيض الرابض قربهم. في الدقيقة العاشرة، حضر كبار المستوطنة، وكان سي التهامي مجبرا كذلك أن يكون أول المتكلمين. وبعربية مكسرة، عرفوا مصيبة الرجل، فضيّفوه ، بعد أن قال له الرجل الطويل الملفوف في بُرنسه:
ـ اِنسَ أمر « قزديرتك» ، وتعال اشربْ كأس شاي وكسرة خبز وزيت.
المكان موحش و الناس أغراب، و التاجر بين التوجس والطمأنينة، يفرك فمه ليبتسم، مداريا شعورا غاصا بالألم والغبن. نزل بين حشائش الدوم ورؤوس الحجارة المسننة كالمناشير، يسندونه حتى لا يُفش مثل بالون أبيض يقق.
بدا منظره وهو يفترش الأرض الكأداء مثل كائن فضائي نزل من كوكب آخر، ينظر من طرف خفي إلى رؤوس الحجارة المدببة تحت حصير الدوم، وإلى السعف القصبي المسنود بالأعواد الكبيرة.
قبو مظلم نهارا وقعر بئر ليلا، أشعل قنينة الغاز الموضوعة في كوة النافذة، بعد أن ربط إلى خرطومها الحديدي «فتيلة صينية»، انبعث قليل من الضوء و انبعث معه الحاج العربي من وحشته، بادره كبير القوم قائلا:
ـ كما ترى، لا ماء ولا كهرباء، ولسوف يطبع على جلدك برغوث أو ثلاث ، قبلة الترحيب، فلا تجزع.
استجمع الحاج العربي قواه الخائرة ، ونطق :
ـ كيف تدبرون أمور حياتكم هنا ؟
ـ نأتي بالماء من «المطفية»، نحن والحيّات والضفادع والعقارب لنا شِرب واحد مختلط، وأقرب سوق أسبوعي على مسافة ساعتين ، على ظهر بغل ، ينبغي أن تكون حوافره من حديد.
دارت كأس الشاي الأولى، وانسجم الضيف مع مضيّفيه ، وعجب لهذا السائل العجيب ، كيف يرشفونه رشفا، وكيف يسري في عروقهم مثل الإلكسير، فآنس وفُكت عقدة لسانه، فبدأ التاجر المحنك ذو اللسان المشقوق في الكلام، فأخبرهم أنه عاشق قديم للجبل، وأنه يغبطهم على هذا العيش البسيط الذي يكاد يشبه عيش الأنبياء، والذي لو علم به أصحاب الحضر لجالدوهم عليه، وقال لهم في ما يشبه الإسرار ، إنّه متورط بالعيش في المدينة الظالم أهلها، وأنه بعد حين قريب سيمضي تقاعده على رأس جبل، كما هم متقاعدون الآن.
بدا أن الحاج انفلت من عقال غربته، واسترسل مستحوذا على الكلام بعد أن سخن لسانه المشقوق، تماما كما يفعل في متجره الكبير:
ـ تعرفون أن الحياة هناك أي عندهم ـ وأشار خطأ إلى جهة الجبل ـ مسخٌ وسلخٌ، نحن نعيش .. إنهم يعيشون هناك كان يُحاول أن يُبعد عن نفسه تهمة العيش في المدينة (نحن نتآكل يوما عن يوم، وأقراص التهييج والتخدير هي سلاحنا …سلاحهم الأخير للعيش في ذلك المسلخ الواسع، نموت ونحيا في اليوم الواحد سبعين مرة، ولا ندري أنحن من الأحياء أم من الأموات الذين ينتظرون موتهم النهائي…أنتم هنا أصحاب نعمة لا تدرون عنها شيئا ) بدا وكأنه يصدّق نفسه.
قال كلمته الأخيرة، و الساقي يصب الكأس الثانية ويضعها أمامه إلى جانب برّاد يعلوه الصدأ.
الحاح العربي تاجر بضاعة وتاجر كلام ، يبيع بضاعته بالكلام، يقدر لكل شيء ثمنا، ويغري الناس بكل شيء، وفي اللحظة التي كان يغري القوم بمنفاهم ويزين لهم أنفسهم. حاصره كبير القوم:
ـ نحن هنا بمعزل، الجبل أمامنا، و الوادي أسفل منا، عندما “يحمل” الوادي وتحمل نساؤنا نحملهنّ على ظهر النعش ونسير بجنازتهن إلى أقرب سبيل ، الزغردة والهيللة عندنا سيان، قد يلد النعش الموت وقد يهب الحياة .
تسمّر المستمع مكانه وتصلب مثل تمثال ، وزاد المتكلم قائلا :
ـ حينها يقتني المحظوظ منّا قنينة غاز بمئة درهم، إن استطاع إليها سبيلا، و إذا انهمر الهطل، يستحيل الوادي بساطا مائيا أمغر بعرض ثلاثين مترا، فلا نجد بدا من ركوب “ تمعاديت” .
بدا الحاج دهشا، وعرف أن شيئا ذا بال يفوته ، فأسرع صاحب الكلمة مسترسلا:
ـ طوْفٌ من جلود المعْز، ننفخها حتى تغدو مثل الكرات ، نرصّها، ونبسط فوقها نسجا من أعواد شجرة التوت، و العبور إلى الضفة الأخرى قد يكون عبورا إلى العالم الآخر.
حوصر التاجر، عاشق الجبل، وبدأ أنه ينكمش على نفسه، وواصل المتحدث كلامه:
ـ وراء قمة الجبل العالية، إلى ما يشبه المدرسة، يَشدّ أبناؤنا الرحال ، لا يعرف بوجودها أحد، يقضون سنوات عمرهم بين غدُو ورواح، إلى أن يكبروا، فنبعث بهم إليكم يشيّدون مبانيكم ويحرسون نومكم.
مع دوران الكأس الثانية كان الحاج قد سكت تماما.
في خضم الحديث ، امتلك أحدُ الصبية الشجاعةَ ودلف إلى “غرفة الكبار”. حاذى الرجل الغريب وتكوّر بجانب الرجل مُعدّ الشاي، وهو يسترق النظر إلى الحاج التهامي ناظرا إليه نظرة لم يستطع التاجر الضيف أن يفك سرها المُلغز. انتبه مالك الحديث وهو يضم الصبي إلى جانبه، يبدو أنه ابنه. اغتنم الفرصة فقال:
ـ زايد، أمكسا ، أمين ماعزنا، لا يستطيع العدّ إلى العشرة، لكنه يحصي عنزاتنا واحدة واحدة…
اختلس الحاج نظرة سريعة إلى الصبي، فصدمه منظر الوجنتين الدّاكنتين، واليد الصغيرة التي علَتها طبقة خشنة من الوسخ والجلد الميت، فبدت يده مثل سحلية صغيرة تغطيها الحراشف.
بحي كاليفورنيا الشهير، نزل الحاج م.التهامي من السخط الكبير أمام باب معصفر عريض، ضغط على زرّ فانفتح، والحارس النهاريّ الأول يلقي التحية ويتمتم شبه منحنٍ بدعاء خافت. ترجّل ومشى على بلاط من المرمر الأخضر الإيطالي الصقيل.
عن يمينه مسبح مستطيل كبير، وعن يساره أرض معشوشبة بحجم ملعب كرة قدم صغير، دخل إلى قبة فسيحة لها زجاج ملون ومرايا صقيلة وبلّور وصنابير من النحاس الأحمر، يبدو أنه الحمام. صعد درجا صغيرا وغمر الجسد المترهّل في “الجاكوزي” والماء الفائر يداعبُ أَليته الصغيرة.
أغمض عينيه، وأرخى جفنيه، ورأى الطفل الصغير ينظر إليه مبتسما، حاول أن يغرق في النوم، لكن الطفل ذو العينين الزرقاوين بقي ينظر في عينيه.


الكاتب : عبد الحكيم برنوص

  

بتاريخ : 22/05/2019