كنت في تونس الجديدة : عندما تسلل الظلام لتونس العاصمة

 

نزلنا مطار قرطاج مع تسلل الظلام لتونس العاصمة، لاحظت أن الإنارة الخافتة لم تستطع أن تبدد معالمه وتمفصلاته الكبرى التي عمت محيط الطريق من المطار إلى مكان إقامتنا بالمدينة العتيقة.
المطار بدوره يبدو خاليا من الجنسيات الأجنبية التي كانت بالأمس تحج بوفرة إلى هذا البلد ،حيث تعتبر السياحة العمود الفقري لاقتصاده.وحدهم الأفارقة كانوا موجودين، ونحن منهم طبعا.
رجال الأمن في الجدار الأمني للمطار كانوا مختلفين عما سجلناه عليهم في زمن بنعلي، مراقبة جواز السفر لم تكن مصحوبة بأسئلة إضافية، كالتي كانت، والممثلة في «مين بوك، وأبو بوك ،وامه و بوها، وأبو أبوها،و وأي جريدة تشتغلين بها، وما علاقتك بالإعلام السمعي البصري، وحزبك، وجمعيتك,,,إلى آخره»، ولم يتبقى لهم -من هذه الأسئلة التي انتقدناها في حينها أيام كان بنعلي يحكم البلد بقبضة من حديد_إلا السؤال عن ألوان وقماش ملابسنا الداخلية، كل ذلك اختفى ، وحلت محله جملة»مرحبا بكم في تونس الجديدة».
لكن نقطة التفتيش ظلت حاضرة بقوة، حيث تحول الأمر من البحث في الأدمغة إلى بحث في الحقائب عن شيء ممنوع،أو ربما قنبلة استعصى على صاحبها تفجيرها في مكان محدد داخل الطائرة أو المطار.
سألت أحد رفاقي في الرحلة ، الم تفتش السلطات المغربية أغراضنا قبل شحنها في الطائرة ، أم أن الطائرة أنزلت في نقطة عبور ما ،ليوضع في أغراضنا ما يرادإيصاله ربما إلى تونس،أم أن الأمر يتعلق بسوء تقدير أو سوء فهم كبير.
اخترت أن أغيب كل هذه التداعيات التي تحط الرحال على رأسي كالعادة، في رحلاتي المتكررة عبر الحدود،وذلك عندما رأيت وزيرا سابقا من بلادي مع وفد مغربي جامعي يفتشونه بدقة،وبكثير من التلكك في الفعل من طرف الشرطي التخين، الذي رفع حاجبيه إلى الفوق وسط وجه مستدير وعينين جاحظتين يبدو أن النوم هجرهما، أو شيء آخر أجهله، عمل على تكحيل دوائرهما، وأنا أردد مع نفسي:» الله يحسن العون، الوضع ماشي ساهل».
أشار إلي الشرطي بيده التي امتد الغضب الى أصابعها، كي أتفضل إلى ركح التفتيش، فعمل بعدها –بعد أن طلب مني العمل على فتح حقيبتي الصغيرتين- على إدخال يديه إلى جوانبها بدقة، تنم على أن الرجل خبر الحفر بأصابعه في حقائب الماريين إلى هذا البلد، الذي أطرح اليوم السؤال، للبحث عما استجد فيه بعد ثورة ربيعية، تحول ياسمينها إلى غبار أزكم الأنوف وأعمى العيون لتصبح الرؤية ضبابية في مشهد غامض.
دخلنا تونس العاصمة، بعدما وجدنا في استقبالنا أصدقاءنا التونسيين، ركبنا سيارتهم الخاصة ، وبددنا الظلام بإناراتها الأمامية، في الوقت الذي ظلت فيه الإنارات الخلفية للسيارة إشارة ضوئية أننا في الخط الأيمن للطريق المزدوج.
لم أستطع بالفعل رؤية الحفر الجانبية، التي غطتها المياه ذات شتاء قاس، حولت مناطق عدة في تونس إلى أمواج كشفت عن سخط الطبيعة ، التي فاقت قدرة عمال البلدية على انقاذ البشر والشجر والبيوت المتآكلة، وحده القدر حال دون ذهاب أرواح، كانت على وشك الضياع.
وهو الضياع الذي غابت عنه تحليلات عزمي بشارة، الذي كاد أن يلصق في أذهاننا أن ثورات مجيدة ستدخلنا إلى جنة الحياة، وطبعا ستلتمس لنا العذر عن زلاتنا لإدخالنا على بساط من ريح إلى جنة الممات.
قلت لرفيقنا التونسي :»ألم يحلل عزمي بشارة ما وصلت إليه تونس الشقيقة، رد علي ضاحكا «فص ملح وذاب». وأضافت رفيقتنا موضحة أن تونس العاصمة كانت أقل ضررا من شرقها في نابل . عاملة بعد ذلك على فتح جهاز هاتفها على موقع إخباري قرأت فيه أن «الفيضانات المفاجئة التي ضربت ولاية نابل (شرق العاصمة التونسية) أدت إلى مقتل عدة أشخاص، هطول أمطار غزيرة على المنطقة، وسط حالة من الغضب الشعبي ومساع حكومية لتهدئته.وأظهرت الصور الجوية غمرَ المياه لأراضي واسعة من المنطقة، التي تبعد عن العاصمة بستين كيلومترا؛ وهو ما أدى إلى إلحاق الضرر بالبنى التحتية، والمباني، والطرقات، والمساحات الزراعية. كما شهدت نابل مظاهرات احتجاج وغضب، في حين دعا رئيس الحكومة إلى الهدوء، وتمت تعبئة تجهيزات لتطهير وشفط المياه، وأكد رئيس الحكومة أن الدولة التونسية ستتحمل مسؤولياتها تجاه المتضررين، خاصة سكان الأحياء الشعبية والفلاحين، بعد أن تقوم السلطات بحصر الأضرار التي لحقت بالمواطنين، وأن الجهات المعنية ستحاول فتح الطرقات المتضررة، وإغاثة المناطق المعزولة».
قلت بعد الإنتهاء من قراءة الخبر، هذه تونس لا تستحق كل هذا القهر المزدوج، اكيد أن رفاقي هنا غاضبون، وأن حالة تونس ستكون بين المطرقة والسندان، وأن الضيق حل بأصدقائي حتى خيم الصمت على وجوههم وسكن ألسنتهم، في انتظار لحظات الإنفراج، وكررت الكلمة، لأنني شخصيا لا يروقني أن أسمع أن انفجارا وشيكا سيحل ، فكفانا من الذي كان ، ذلك الذي قاد الإنفجاربالأمس، فلم يولد إلا فأرا سكن القصور ، منتشيا فقط أنه هزم السبع في عقر داره، والحال أن لا الفأر ولا السبع هزما أو انتصرا، بل الذي انهزم هو شعب دخل القفص في انتظار يد اللطف التي ستخرجه من هذا المأزق ، الذي أوجده شعب ونخب بالفعل في لحظات سوء الفهم الكبير.


الكاتب : بديعة الراضي

  

بتاريخ : 09/11/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

أكد على أن تعامل الحكومة مع القطاع ومهنييه يساهم في اتساع دائرة الغموض والقلق   أكد ائتلاف يضم عشر جمعيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *