«ما فوق الرؤية» في أعمال عبد الإله الشاهدي

تتعدد الاصطلاحات المرتبطة بالواقعية المفرطة، فهذا التيار الفني، يخلق تنافسية جمالية بين يد الفنان وأساليبه المختلفة والآلة الفوتوغرافية التي شكلت ثورة كبرى في تاريخ الفن، خاصة منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر. وقد ارتبطت الواقعية المفرطة بالفن المعاصر، باعتبارها مهدت وساهمت في بزوغ فجر هذا الفن، إلى جانب واقعية الـ»بوب آرت» وغيرها.
الفن المعاصر الذي سعى إلى جعل الإنسان مسعاه ومنطلقه. الإنسان في أقصى حالات التشتت والتشرذم والانفلات والهشاشة، أي في يومياته ويومه. هذا السعي يبتغي تجاوز الإنسان في ذاته، عبر رؤية نيتشاوية ترنو إلى بلوغ ذلك الإنسان الأسمى والأعلى، السوبرمان.
تندرج أعمال فنانين مغاربة قلة في خانة التصويرية المفرطة في واقعيتها، وإن حاول البعض إدراج أسماء معينة ضمن هذا التيار، إلا أنه إدراج – عندنا- كان عن غير وعي، أو عن قصد، أو عن غير إدراك، لما يحمله هذا التيار من أسلوبية ودقة عالية، من حيث التدقيق والتصوير. يعد الفنان التشكيلي المغربي عبد الإله الشاهدي من هؤلاء الفنانين القلائل، الذين استطاعوا عبر تمرس وتمدرس واشتغال وتجريب داخل مختبره/ورشته، أن يمتلك ناصية الدقة في التصوير والصباغة التصويرية.
فهذا الاتجاه الفني سعى إلى الإعلاء من الكائن البشري، بجعله يتمتع بحرية ووجود كامل.. حيث إنه في غالبية أعمال المنتمين لهذا الفن يحضر الإنسان باعتباره مركز اشتغالهم، وذلك في كامل حريته اللامشروطة، أي باعتباره (أي الإنسان السامي) بديلا عن «السماء التي أضحت فارغة». ولأن السماء فارغة كان لزاما «استرجاع الأشياء التي تم إنفاقها في السماء إلى الأرض» (فيورباخ)، هذه الأرض التي يربحها الفن كلما فقدتها الميثولوجيات. إننا نربح الأرض كلما خسرنا السماء، إننا إذن نربح الجسد ونخسر الروح، إذ أننا نوجد باعتبارنا أجسادا لا أرواحا تتقاسم معنا الجسد. من هذا المعطى النيتشوي الذي تبلور على يد ميرلوبونتي، من حيث تأكيده على إدراكنا للعالم بكامل أجسادنا، سعت الفنون المعاصرة، المستندة إلى فلسفة، أو فلسفات ما بعد الحداثة، إلى إعلاء الإنسان بصفته موجودا في الجسد. ومن جانب آخر، ولأن الواقع مأساوي ومليء بالحروب والشرور، فنحن «نملك الفن بهدف ألا نموت من الحقيقة»، لكن أي حقيقة؟ إنها حقيقة الواقع، أو حقائق الواقع. لهذا جاءت الواقعية المفرطة باعتبارها واقعا بديلا، واقعا فنيا يحدد زواياه وإطاره ودقته الفنان عينه، إنه الواقع السحري. جاء كتعويض عن السماء الفارغة. فيغدو الفن حاميا من «القرف والانتحار»، فننتصر للكائن في كامل جسده.
من هذه الخلفية الفلسفية والفنية تتأسس أعمال الفنان التشكيلي عبد الإله الشاهدي – المولع برسم الأنثى، باعتبارها أساسا بصريا ترتكز عليه أعماله جلها، وذلك في بعد واقعي، من حيث أن هذه الواقعية الجديدة جاءت كمحاولة فنية مختلفة وبديلة عن التأزم الذي خلقته التجريدية – والتجريدية التعبيرية- حينما بلغت ذروتها وأقصاها الفني أواسط القرن الماضي. لهذا نجد أعمال عبد الإله الشاهدي عامرة بانطباعية وحساسية مفرطة، يجسدها الفنان عبر تلك الخلفيات السريالية المتولدة عن تداخلات شكلية وصباغية غرائبية وسحرية. تجعلنا أمام سديم سماوي تتولد عنه هؤلاء «السيدات الجميلات». فالفنان هنا يسعى إلى أخذ التصوير إلى مضاهاة آلة الفوتوغرافيا، عبر عملية الإدراك البصري في أقصى ما يمكن أن تسجله العين. وذلك من حيث أن الواقعية المفرطة كتيار معاصر سعى إلى «تصوير وجوه النساء الجميلات والشخصيات التاريخية والقصور والمصانع، لكنها من جهة أخرى، وخلافا للواقعية الاشتراكية، فإن الواقعية المفرطة تواجه الواقع بعقلية المراقب المدرك لكل الجزئيات والتفاصيل». لهذا نجد فنانين اتجهوا إلى تصوير تلك العوالم الدقيقة، فتأتي إذن، هذه التصويرية الجديدة باعتبارها اختيارا واعيا للمظاهر الواقعية والتصوير الممتع والفاتن والمدهش.
ولأن الفوتوغرافيا شكلت ثورة تصويرية كبرى، خلقت بموجبها واقعا موازيا، ينبثق من اللحظة المقتنصة من الزمن، التي تغدو نسخة تغدو أصلا، إذ سيجعلها فنانون كثر من دادائيين وغيرهم أساسا من أساسيات اشتغالهم الفني، إلا أن هذه الواقعية الجديدة سعت إلى إعادة تكريس الواقع في إطار من التكرار، الذي يغدو أيقونة، ليصير الواقع المنسوخ ذا طابع قدسي. وهذا ما نلمحه في أعمال عبد الإله الشاهدي، الذي يعمد إلى جعل شخوصه أيقونات تحيط بها هالة من السُدُم، التي تخلق فضاءات بصرية متعددة ولا متناهية، شبيهة بفضاءات جيروم بوش اللامتناهية. تحضر فيها الشخوص باعتبارها مركزية تتوسط العمل في الغالب.
فأعمال هذا الفنان التشكيلي المجرب والساكن في مختبره /ورشته، تسعى إلى تخطي ما يربط الإنسان بالطبيعة من إحساسات مباشرة. فهو يرنو إلى تسجيل ما تعجز عنه الفوتوغرافيا، أي تلك الأبعاد الإنسانية العميقة، تلك الطبقات النفسية والسيكولوجية، التي يستحضرها عبر تلك التموجات والتداخلات اللونية الناتجة عن كيمياء صباغية خاصة بالفنان في مختبره الخاص، إذ يعمد إلى صناعة صباغاته الخاصة وألوانه المتفردة، عبر اشتغال كيميائي رفقة مختصين.
لهذا ليس اختياره للوحة وإطاراتها، سجنا داخلها، أو عدم القدرة على القفز من أسوارها الهشة، والتجريب خارج القماشة، بل لأنه تمكن أن يجد خلطته السحرية في اللون والعمل، إلى جانب ما توفره له من إمكانيات التجريب الصباغي، كاختيار حر ولا مشروط، إذ إننا نجد عبد الإله الشاهدي قد انعطف قليلا عن اللوحة، ليجرب أساليب جد معاصرة، تبتغي سرية وكمالا، من حيث اعتماده الدائم على كيميائية اللون وساحريته. يضج مختبره بالعديد من «الرسوم الأولية» لآخر اهتماماته الفنية المتعلقة بإنتاج أعمال ذات تغيرات ضوئية، سواء أحواضه المائية الشفافة المعتمدة على خليط بين الصباغة ومواد التثبيت، أو تلك المعتمدة على حرارة الإنارة لتغيّر ألوانها تبعا لجو الغرفة.
تتداخل في أعمال هذا الفنان ملامح فنية عدة تتشابك فيها التصويرية الصباغية المفرطة والسريالية، وبالتقنية وأبعادها اللامرئية، إذ تتحول إلى إبداعية تتعلق بتحول أنطولوجي مرتبط بأفق ميتافيزيقي للتقنية، وأفق الفن المعاصر بكل ما يستعدي معه من تحكم بكل ما هو بصري.
عود إلى البدء، وفي البدء كانت الصورة، والصورة هنا في كامل حلولها وتجسيدها البصري، الذي يتقابل مع الواقع ويضاهيه، إلا أنه يهرب منه إلى سريالية تبتغي إنشاء تَمَثُلات نفسية، أو فضاءات لامتناهية، تدخل الصورة/الوجه المرسوم في عوالم من الأحلام، باعتبار الفن نتيجة أحلام تسكن الكائن/الفنان. لتغدو الواقعية المفرطة داخل أعمال الشاهدي نوعا من السيمولاكر؛ إلا أنه لا يحضر بصفته نسخة النسخة، أو النسخة المشوهة، أو باعتباره نسخة الأصل، بل يحضر باعتباره واقعا: واقعا بديلا وموازيا، بل واقعا قائما بذاته لأن له تفاصيله وجزئيته الخاصة، واقعا سحريا يشبه قصص غارسا ماركيز وعوالم المئة سنة. كأن الفنان يجسد تلك الرؤية النيتشاوية الساعية إلى إنقاذ الكائن من «حقائق الواقع» القاتلة، عبر خلق «حلم»، من حيث إن الفن هو خالق لأحلام كبدائل عن مأساوية الواقع.
ليست أعمال عبد الإله الشاهدي الجديدة أعمالا فنية تصويرية تتبع مآزق الكلاسيكية وهندسيتها وحساباتها الأولمبية، التي تجعل الفن حبيس حسابات دقيقة، لا تترك للفنان متسعا من اللهو واللعب والمرح، الذي يجعل العمل منبثقا من الذات الإنسانية الفنانة، باعتبارها منطلق الفن لا العالم الخارجي، فالفنان المعاصر لا يسعى إلى المحاكاة، بل إلى إعادة الصياغة والتشكيل والخلق.
فالعمل الفني عند الشاهدي تعبير عن حرية الذات وحالتها الوجدانية، لا عما يمليه الواقع الخارجي. فيصير نوعا من التشظي، إن صح اصطلاحنا هذا. فالأثر الفني كما يخبرنا جاك دريدا، هو «رأب للصدع والتشقق وضمد الجراح وعلاج للذات المتشظية». في ارتباط بتصور هيدغر الرائي بكون العمل الفني تعود حقيقته إلى الكينونة.. كينونة الفنان بالتحديد، أي الكينونة المتشظية، السائرة إلى الهاوية.
هذا التشظي وهذه الهاوية يضمد فتقهما عبد الإله الشاهدي بما استطاعه من تداخلات سريالية تملأ الفراغات، ولا تملأها في الآن ذاته. لأنها فراغات متوالدة لا تنفك تتوالد وتتوسع. إلا أن الملء هنا، سعي إلى إسقاط الذات باعتبارها طبقات نفسية أقصاها الجنون، الذي يرى فيه نيتشه أقصى الفنية. الجنون الذي تنكشف فيه الكينونة التي تُردُّ إليها حقيقة الفن والعمل الفني، من حيث إنها هي انكشاف للحقيقة. ما يجعل العمل الفني بديلا عن الواقع وحقائقه التي تغدو مطلقة، ومعها يصير الإنسان رهين روتين لا ينفك منه.
أما اختيار عبد الإله الشاهدي للأنثى كمرتكز اشتغال فني في جل لوحاته، أي كشكل دال لديه، فباعتبارها الأصل والمثال، إذ تأتي محملة بالأبعاد الحضارية والميثولوجية العتيقة، التي قدّست المرأة وجعلت منها نموذجها الأعلى، لاعتبارها دلالة الصيرورة والديمومة والخلق. فهذا الفنان العاشق للأنثى نتاجا لعلاقة القرب التي جمعت بينه وبين والدته، حيث احتفل بها في أحد أعماله الفنية باعتبارها «أمنا الأرض» ومنها تنبثق الحياة، سيعمد لتصويرها على شكل «شجرة الحياة» التي تتفرع عنها المعرفة، في تصوير مفرط بالواقعية من خلال تلك الصورة المجسدة لـ»الأم» بتجاعيدها وثنايا جلدها وملامحها المبهرة، وتلك السريالية التي تشكل تعابير لامتناهية تتداخل عبرها الصور في ما بينها، في توالد للتأويل والدلالة، إذ من فوق رأسها تنبع الحضارة وتتجلى في بهائها المعماري. فيصير عمل عبد الإله الشاهدي عملا واقعيا ومنفلتا في الآن نفسه.
فهذا الفنان الذي يدافع عن المرأة ضد كل ما تشهده من مآس وويلات عنف وتعنيف واحتقار وتنقيص من قيمتها ولا مساواة، جعل منها طرحه الأول الذي يشتغل عليه بشكل استتيقي مبهر وماهر، يتخذ طابعه الجمالي من كونه صورا تصير أليغوريا، حيث تمسي النسخة مثالية الحضور، إلى جانب واقعيتها السحرية التي تعتبر أساسا لها وأساس منجز الفنان التشكيلي عبد الإله الشاهدي.
ومن هذا المعطى الجمالي يعرض هذا الفنان أعماله المفرطة في واقعيتها والحساسة للعوالم السُريالية السحرية، برواق العرض التابع للمكتبة الوطنية (الرباط) من 14 إلى غاية متم شهر دجنبر 2018. معرض وسمه بعنوان رامز ودال: «ما فوق النظر» أو أكثر من رؤية، فالفنان بهذا يفتح عتبات التأويل أمام المتلقي الذي يقف أمام تجسيد للامبصر والحلمي والفوقني.
*(شاعر وباحث جمالي)


الكاتب : عزالدين بوركة *

  

بتاريخ : 08/12/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

أكد على أن تعامل الحكومة مع القطاع ومهنييه يساهم في اتساع دائرة الغموض والقلق   أكد ائتلاف يضم عشر جمعيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *