مبدعون في حضرة آبائهم : عبد الاله الجوهري … أبي هو أبي.. 2/2

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

توالت الأيام والأعوام، لاشيء تغير في علاقتي بأبي، كنت المشروع الفاشل في حياته، رغم الكد والجد والإجتهاد، كان يتمنى، في قرارة نفسه، رغم نبوغي الدراسي، أن أسير على خطى إخوتي، أن أرحل عن أرض المغرب لأستقر هناك بفرنسا، وأشق طريقا يضمن لي النجاح والسعادة في الحياة، وأبتعد عن مصائب اليسار والإنتصار لقضايا الطلبة والطلاب في الجامعة، وأضع حدا لأوجاع الرأس والخوف من الاعتقال والسقوط في البهدلة التي ستجر حتما عليه العار، هوالذي لم يكن يعرف الطريق المؤدية لسجن عين قادوس، أو حتى لمخفر الحي الغير البعيد عن حارتنا، فكيف له أن يتحمل نتائج خفتي ونضالي الأهوج القائم على المجازفة والإستعراض الناتجين عن سنوات المراهقة..
شيء واحد ووحيد كان يخفف الوطأ عن كاهل أبي، أن الكثير من أصدقائه، وبعضا من أفراد العائلة والجيران، كانوا يستشهدون بنباهتي وذكائي واجتهادي في الدراسة، شهادات كان يتظاهر أمام من يدلي بها أنها لا تهمه في شيء ولا تغير رأيه في شخصي الضئيل، فأنا بالنسبة له، شاب نزق متمرد على النصائح وغارق في أوهام الشعارات التي ستجرني حتما للهلاك، وسبب ذلك قراءاتي المتتالية للكتب اليسارية والروايات الأدبية المشبوهة التي تبعدني عن الواقع وتسمم أفكاري، إضافة لإنزوائي الدائم داخل غرفتي وترددي على القاعات السينمائية التي ستقودني، الأفلام المعروضة بها، نحو مجاهل الإنحراف، خاصة منها الصينية القائمة على الحركة والعنف والهندية الرومانسية السطحية.
رغم تقدم أبي في السن وحصولي على وظيفة كمدرس بالثانوي، وتأسيس بيت اعتمادا على إمكانياتي، ظللت بالنسبة له، ذلك الشاب الخائب، الذي فضل الإشتغال كأستاذ بورزازات على العيش في بحبوحة الديار الأوروبية والدفء العائلي الذي لا يرفضه أحد…
جرت مياه كثيرة تحت جسر الحياة، وتقدمنا في العمر أنا وإياه، ورغم أنني رسمت لنفسي مسارا في عوالم النقد والإشتغال التلفزي والسينمائي، فقد ظل وفيا لقناعاته، لقد كان أبي هو أبي في نظرته لشخصي التائه في متاهات الحياة، الشخص الفاشل الغارق في اللجاجة والعيش في أحضان الأوهام والأحلام التي لن تتحقق بالنسبة له إلا هناك في فرنسا، أما هنا على أرض المغرب، فقل على نفسك السلام مهما اشتغلت و ناضلت ونجحت..
في سن الرابعة والثمانين، أي قبل موت أبي بعامين تقريبا، أصبح صديقا للمرض الذي أقعده وشل حركته الدؤوبة، هو الرجل النشيط الكثير التحركات، فكان ذلك، بالنسبة له، مدعاة للغبن والإحساس بالضيق الذي بدأ يحاصره داخل البيت الذي كان يقطنه في فاس رغم اتساعه، خاصة وأن لا أحد كان يزوره سواي، بالنظر لبعد باقي إخوتي عنه وسكنهم هناك في البعيد، زياراتي له كانت متقطعة لكن ضرورية لربط أواصر الحب وملئ الفراغ وتحسيسه أنني قريب منه غير بعيد عنه كما كان الأمر في سابق الأيام والأعوام، لهذا أصبح يطلب من زوجته (تزوجها بعد وفاة الوالدة)، أن تأتي به لبيتي بمدينة الرباط، وبسبب كثرة التردد والقعود بين أفراد أسرتي، واحتكاكه بأبنائي من جهة، ومجالستي له بين الحين والآخر من جهة ثانية، بدأ يكتشف الوجه المفقود في علاقته بي، بدأ يحس شيئا فشيئا بدفئ العاطفة ومدى ما كنت أحمل له من حب وتقدير رغم «قصوحية» رأسي و»شذوذ» أفكاري، فبدأ يمطرني بين الفينة والأخرى، وعلى غير العادة، بعلامات الرضا والمحبة..
قبل رحيله بأربعة أشهر أو أقل، وبعد أن أصبح شبه مستقر ببيتي، طلب مني أن أخذه لمجالسة أمواج البحر الهادرة والاستمتاع بشمس الهرهورة التي يعشقها، حملته كطفل صغير بين ذراعي، لأنه لم يعد يقوى على المشي، وأركبته السيارة، طول الطريق ظل صامتا كأنه يستعيد شريط الذكريات في علاقته بي، عندما وصلنا للمكان المنشود، أجلسته في مقهى مطل على اتساع زرقة المياه، وبدأنا نتبادل أطراف الحديث و تناول قضايا وأمورا شتى، كان ذهنه المتوقد يعي أن أيامه أضحت جد معدودة، لهذا أوصاني، في سياق الحديث، خيرا بنفسي وأسرتي، قبل أن يلوذ بالصمت برهة ويعاود الحديث معتذرا بشكل غير مباشر عن الأيام الماضية، عن سوء الفهم والنفور، كنت حينها أحاول جاهدا أن أؤكد له أن علاقتي به كانت دائما جيدة، وأنني أعرف أن خوفه علي هو الذي كان يجعله متشددا في التعامل معي..
تكلمت طويلا وهو ينصت لي، قبل أن تصعد من أعماقه تنهيدة مع ابتسامة ساخرة، أكدت أن كلامي لا يقنعه البتة، وأنه كان مخطئا حقا في حقي، لهذا يحاول الآن أن يصحح مافات، نظراته الحنونة كانت بمثابة اعتذار حقيقي عن سنوات طويلة من سوء الفهم والنفور وعدم التصرف كأب بالقسطاس بين كل الأبناء..
بعد الجلسة التي استغرقت تقريبا ساعة، طلب مني أن أعود به للبيت، لأنه بدأ يحس بالتعب الناتج عن المرض والشيخوخة. عدنا للبيت وأجواء من البهجة والهيبة والرهبة من شخص أبي تحيط بي، أوقفت السيارة عند باب العمارة التي أقطن بها، وأنزلته ببطء شديد قبل أن أحمله بين ذراعي صاعد الدرج نحو الشقة، دون سابق انذار، أحاط يديه الواهنتين حول عنقي وقبلني على خدي قائلا بصوت في الكثير من الحب والحنان: «أنت اللي صدقتي من بين كل أبنائي»..
مات أبي الحاج قدور، تاركا غصة في حلقي ومرارة في قلبي، لأن لحظة اكتشاف حبه لي وصدق علاقتي به لم تعمر طويلا..


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 23/08/2019