مبدعون في حضرة آبائهم 53 : عبد الهادي السعيد ووالده : أبي وأنا وسدرة المنتهى

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

وأنا طفل، لم أكن أراك يا أبي إلا وأنت تصلي، وإن لم تكن تصلي، فإني لم أكن أراك إلا وأنت تستعد لتصلي، أي وأنت تتوضأ. كنت تضع الفوطة على رقبتك، تذرع بهو الدار أكثر من مرة، جيئة وذهابا، تتفقد مقراج الماء على النار، أحيانا تنتظر قليلا في المطبخ حتى يزداد منسوب الحرارة درجة أو درجتين، أحيانا تغادره ثم حين تعود تجد أن الماء قد سخن أكثر مما ينبغي فتضطر لتخلطه ببعض الماء البارد، قبل أن تسحب المقراج إلى ركن البهو الجنوبي حيث كرسيك الصغير الأثير، كرسي بلا مسند، عبارة عن أربعة أعمدة خشبية قصيرة تعلوها قعدة منسوجة من شرائط الدوم والسمار، كرسي هو لوحده محراب تعبد قبل التعبد، محراب وضوء، تستطيع الملائكة أن تدرك مدى تقواك وورعك وتشبثك بالفرائض والنوافل سواء بسواء، فقط بأن تحصي كم مرة كنت تجلس عليه لتتمضمض وتستنشق، لتغسل وجهك ويديك إلى المرافق، لتحثي على رأسك ثلاث حثيات. وبالفعل فقد كنت يا أبي كثير الوضوء، أو كثير تجديد الوضوء، ربما حتى دون داع شرعي، كنت يا والدي رجلا تقيا نقيا، حتى ليصعب على المرء وهو يراك أن يجزم بأنك كنت كسائر الناس تنقض الوضوء.
كنت أتابع حركات أبي بفضول واستغراق، وكان في كل مرة يجدني بين أعطافه يمسح بيده على رأسي، وحين كنت أكثر من ملازمته كان يشاكسني قائلا: ألن تشرع أنت أيضا في إتيان الصلاة كباقي الخلق؟ كنت حينها أختفي بسرعة البرق عن أنظاره، وقد أحرم نفسي من متعة مشاهدته وهو يؤدي أمامي حركات الصلاة ركوعا وسجودا وقياما، فقط اعتقادا مني بأن ذلك قد ينسيه قليلا أمر إتيان الصلاة هذا، ينسيه قليلا بأني قد بلغت السابعة وبأن الصلوات الخمس قد صارت عليّ من وجهة نظره فرضا مفروضا !
ثم أقبل رمضان. صار أبي يحدثني عن فريضة الصلاة، بمناسبة ومن غير مناسبة. قال لي : “قريبا سأشتري لك سجادة صلاة، سجادة صغيرة لطيفة، من أجلك وحدك “. قالها بنفس نبرة الرضا عن النفس التي يتخذها الآباء عندما يعِدون أبناءهم بلعبة عجيبة أو بهدية لم تكن في الحسبان. فعلا، لقد اقترب أبي بروحه المتفائلة وبعزيمته من أن يهزمني. قررت أن أدافع بطريقة الهجوم، فرحت أسأله عن المعراج، عن البراق ورحلاته المكوكية بين السماوات السبع. كان معلم الفصل قد درسنا البعض اليسير من تلك القصة، لكن أسئلة كثيرة كانت لا تزال تثير داخل دغامي زوابع عاتية كلما أعدت التفكير في الأمر. سرحت بخيالي مع صور الفرس المجنحة بوجهها الآدمي الفاتن، همت بوعاءي الحليب والنبيذ، بحفيف الريش، بسدرة المنتهى. قاطعت أبي وهو في وهج حكيه :« لماذا تدخل موسى من أجلنا يا أبي في موضوع الصلاة؟ لماذا تدخل وهو نبي اليهود وليس نبينا؟ »
واصل أبي حديثه متجاهلا سؤالي. قاطعته من جديد : « أبي، هل سيكون بإمكانك يومًا أن تطير كالنبي إلى سدرة المنتهى؟ » تنهد أبي ثم أتم حكيه.
في ليلة السابع والعشرين من رمضان، ارتقيت الأدراج حتى السطح، كان علَيَّ يومها أن أترَصَّدَ السّماء، في انتظار أن تنشق في لحظة ما نصفين. كنتُ في الثامنة من عمري. في نفس ذلك العام، كان معلم الفصل ذاته قد لقننا بأن قبّة السّماء تنفلق عن آخرها في ليلة القَدْر، استجابة لتعليمات خالقها. لَمْ أكنْ لأضع كلام أستاذي مَوضِعَ الشك.
أقبَلتُ على الصيام، إلى غاية منتصف النهار، كما تقتضي العادة. مع الظهيرة، بينما كان أبي يتوضأ استعدادا للصلاة، كنت من جهتي أتدارك الزمن الضائع: صحن كبير من السلاطة، طبق من لحم الغنم، كأس من الحليب مَدّتني به أمّي فشربته في جرعة واحدة. لحظة بعد ذلك، لفظت عن أحشائي كل شيء.
على مائدة الإفطار، استفتيت والدِي عن التوقيت المضبوط الذي يفترض أن تحدث فيه ظاهرة انشقاق السماء. ” ليست لدَيَّ أدنى فكرة “، رَدّ أبي. ثم بعد أن أنهى زلافة حسائه، واصَلَ كلامَه بنبرة مُلغزَة: “الساعة التي تسأل أنت عن أوانها، لا أحد بمقدوره أن يدعي معرفتها. تلك أسرارٌ ربّانِيّة يستحيل تكشفها للعقل البشري. أتفهم ما أقول؟ “.
لم أكن أدري إن كنت أفهم ما يقوله أبي. شيء وحيد مؤكد : أنفاسي كانت مأخوذة سلفا، من فكرة المشاهد السماوية السحرية التي كانت تنتظرني.
« لا عليك أبي، قلت. سأسهر ما يكفي من الوقت. سأسهر الليل بطوله إن اقتضى الحال. »
قبل منتصف الليل بقليل، وَجَدْتُني على سطح البيت. كنت قد عدتُ بمفردي من المسجد، وأنا مُنْهَكٌ جرّاء كمّ الركعات المتواترة التي صليتها. تركت والدي خلفي في معبده، يواصل صلاته بصبر وأناة، ولعله سيمكث هناك حتى مطلع الفجر. بَسَطتُ بطانيّة على حصيرة السطح ثمّ استلقيتُ على ظهري مُشبِكاً ذراعَيَّ تحت رأسي. أجلت بَصَري في أرجاء السماء، على ضوء النجوم المتلألئة هنا وهناك. أملت رأسي فطالعني من بين أسطح البيوت طرفٌ من القمَر، ثم عَدَّلتُ وضعي بما يُيَسِّرُ لي رؤيةَ هذا الكوكب المنير على النحو المأمول. على بعد ثلاثة أو أربعة أيّام من حلول العيد، بدا القمر على شكل هلال نحيف، وكأنه على وشك أن يُسْلِمَ الروحَ.
الروح في الواقع، أنا الذي كنتُ على وشك أن أسْلِمَها صبيحة اليوم الموالي. في تلك الليلة المشهودة، أصابتني نزلةُ بَرْد حادة هي الأشد في طفولتي كلها. على السطح، طال بي الانتظار حد الإرهاق، أحْسَسْتُ بتثاقل أجفاني شيئا فشيئا قبل أن يُغافِلَني النوم. مع أني بذلتُ قصارى جهدي لأبقى متيقظا، إذ لم أتردد أن أجَرْجِرَ قَدَمَيَّ إلى صنبور السطح غير ما مرة، لأنهَلَ من مائه البارد وأرش فيضه على وجهي. النجوم من جهتها لم تُعنني في شيء، بل إنها في الواقع عقدت مهمتي، إذ عَمَدْتُ بسذاجة لِعَدِّها حتى أقاوم النوم، فاتضح أنها أكثر فعالية في جلب النوم من أي قطيع خرفان. إذا كانت مُعجزة قد حدثت فوق رأسي تلك الليلة، فأنا لم أكن حاضرا لأشهد على ذلك. أما صيف مُرّاكش فمعروف بفارق الحرارة الكبير بين نهاره وليله. ما حصل أن نومي العميق داعبته نسائمُ هائلة من هواء بارد تكفي بأن ترسل إلى المستشفى فيلقا كاملا من الصبيان الحالمين بالسماوات ذات الأسقف القابلة للفتح والغلق كأسقف السيارات الفارهة.
بقيتُ طريحَ الفراش إلى يوم العيد. لم تتوقف أمّي عن مسح جبهتي المحمومة بثوب مبتل بارد، بينما كان عَرَقِي يتصبب وأسناني تصطك… كنت أسعل بشدة، وكأني أحاول بكل جهدي أن أطرد من صدري ومن قلبي شيطانا صغيرا استقر هناك في غفلة من الكل، وأولهم أبي.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 04/09/2019