من البعثرة إلى الانتظام

قراءة في رواية ” ليالي تماريت ” للكاتبة أمينة صيباري

 

تحمل مغامرة الكتابة في جنسين أدبيين أو أكثر طابعها الخاص، فهل الانتقال من جنس إلى آخر يدل على امتلاك أدوات وتقنيات الجنس الجديد؟ أم أن الكتابة في الجنس الأول حققت نضجا في امتلاك الإمكانيات التعبيرية والتقنيات الفنية في الجنس الأدبي المتحول عنه؟ أم أن الكتابة في فيه استوفت شروطها الضرورية؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من التجريب الإبداعي لإمكانيات فنية واختبار تقنيات جديدة في الكتابة الأدبية ككل؟
يتطلب هذا الموضوع بحثا خاصا واستقراء لتجارب من الكتابة زاوج أصحابها بين أكثر من جنس أدبي، مثلا بين الشعر والسرد أو بين المسرح والرواية أو بين النقد والإبداع …. إذ هناك شعراء كبتوا القصيدة ثم تحولوا إلى الرواية. كما يمكن استبيان الخطاب النقدي باعتباره معرفة عالمة وعلمية وفنية بخبايا الإبداع الفني عامة كما لها خبرتها الدقيقة في مسألة الكتابة عبر الأجناس. في هذا السياق، تمثل رواية « ليالي تماريت» للشاعرة أمينة صيباري نموذجا روائيا لتجريب الكتابة الروائية بعد الكتابة الشعرية . فما هي طبيعة الكتابة الروائية في هذا النص؟ وما هو الأفق الدلالي الذي ينتظم الرواية؟

 

من الحكاية إلى القضية :

تحكي غادة البطلة في الرواية كيف كانت تعاني من الأرق ، و ما يحدثه من مضاعفات وآلام، ما ينجم عنه من تعب ونصب . وكيف كانت تتحايل على النوم، إذ أصبح أعز ما يطلب. هذا الوضع جعل البطلة تواجه الليل في عتمته وعزلته وصمته. كما تولد لديها تمثل لليل ، إنه فضاء للعيش والحياة ، إنه زمن ممتد فضائيا تلتقط فيه البطلة الآرق جمالياته :
تقول الساردة: “أنا الآن متأهبة لمسامرة الليل وأرقه …..لم أعد أتهيب من جفاء النوم ، طبعت العلاقات مع الأرق، الأرق المزمن، الذي لا ينفع معه دواء أو حيل . ”
يؤسس الأرق كاختلال يفقد الجسم معه توازنه ويجعله يحيا بإيقاع واحد وعلى وتيرة واحدة هي اليقظة . يحيا الآرق وفق طقوس معينة. وحفاظا على اتزان الذات وضمان صيرورة أقل معاناة، كانت البطلة تعد بعض متطلبات الحفلة أو الانتظار مثل: الشاي و اموسيقى والمكسرات ( لوز – أكاجو- زريعة- حمص و فول سوداني ) إضافة إلى الأنترنت والكتابة والقراءة ، ناهيك عن الدواء. إن الأرق محنة ومعاناة ليلا واضطرابات نهارا…

الإخراج السردي في الرواية :

اتخذت الرواية طريقة خاصة في إخراجها السردي لمادتها الحكائية ، حيث توزعت إلى إهداء ومدخل وفصول . لقد أشارت البطلة في استهلالها إلى العناصر التالية :
– الموضوع أو القضية ويتمثل في الأرق وكيف غدت تتآلف معه .
– ميثاق السرد حيث تكلفت الساردة بتنفيذ وصية غادة في حكاية مآسيها وأحزانها وخيباتها: ” وأن غادة تسحبت والروح، استقلت بها عن جسدي، تركت لي حرائق البحر يسترها الماء ويفضحها الملح، وغرقت في أوراق مكسراتها وشجونها. ….. ما المانع أن أحكيها غائبة عني، وتحكيني حاضرة في ، نجرجر ذيول الذاكرة على الطرقات ؟ المأساة حين تحكى لا تصبح ملكا لأصحابها …”
– بداية السرد : تشير الساردة في هذا المدخل إلى بداية الخريف أو نهاية شتنبر ، وهو شهر يشهد عدة أنشطة تكشف عن تحولات إما في الفضاء الاجتماعي أو السياسي مثل : الانتخابات أو تشكيل الحكومة أو الدخول البرلماني أو الجامعي….ناهيك عن التحول الطبيعي من حيث الانتقال من فصل الصيف إلى فصل الخريف .
لقد تناوب الحكي عبر ليال، إذ في كل ليلة تتناول مكسرا وتقرأ ما هو مدون في الورقة الملفوف بها. وبعدد المكسرات تتحدد ليالي الحكي، غير أنه ليس هناك انضباط أو توافق بين عدد الليالي وعدد المكسرات، بل قد تتعدد الليالي بين مكسر وآخر. إن الأمر هنا شبيه بلعبة أو تسلية الحظ، فغادة البطلة، تبدأ طقوس الحفلة أو الاحتيال على الأرق، وما هذا إلا صورة ثانية للعبة الانتظار التي تعودت عليها عبر سنين عددا. تبدأ الحفلة بقراءة المنثور المكتوب على ورقة المكسر كفاتحة أو استهلال ثم تبدأ عملية التداعي لأفكار عبر الذاكرة فتتناسل المحكيات بتذكر المآسي والخيبات.
إن ذاكرة البطلة مثخنة، تشبه جنديا عائدا من الحرب مثقلا بالحكايات عن الموت والخوف والهلع. كما تتابع الراوية الحكي عن موضوعات تدخل ضمن اهتماماتها الإعلامية أو المعرفية. تقول الساردة : ” إمعانا في تجاهل الوحدة ، صبت غادة كأس شاي آخر، بطقوسية غير معتادة ، وعدت حبات اللوز، أربعون حبة بالتمام والكمال، البارحة كانت تسعا وثلاثين .” وتحكي في موقع ثان من الرواية : ” كانت الساعة تقترب من الثانية ، أغلقت الحاسوب ، سحبت من درج المكتب عشوائيا ورقة من أوراق الزريعة و الكاكاو ، تماما كما تسحب أوراق اليناصيب . الحظ مهم جدا في مثل هذه المسائل، فقد يكون معك ….أو ضدك…”

انكتاب الرواية و قراءتها عبر التناص:

هناك عبارة أو مقولة عربية مفادها : ” لولا أن الكلام يعاد لنفد ” بمعنى أن الكتابة والإبداع لا ينطلقان من فراغ أو عدم ، بل هناك انعكاس وتجل لنصوص وأجناس فنية على سطح أو عمق النص الجديد. وبذلك يصبح النص الجديد انعكاسا وتجليا لخارجه من النصوص والخطابات. ووفق هذا التصور، تتوافد على النص الجديد نصوص سابقة أو معاصرة فيصبح بلا حدود أو بلا ضفاف.
إن النص الجديد ينكتب من نصوص وأنساق فنية أخرى. ولما كانت القراءة مقترنة وجودا وعدما بالكتابة والإبداع، أي أنهما محفلان متلازمان. ولما كانت الكتابة متأسسة على التناص، فكذلك الشأن بالنسبة للقراءة. ويتحقق هذا الأمر عبر عمليات التأويل خلال فعل القراءة باعتباره فعلا مركبا من عمليات متداخلة.
في هذا السياق، و نحن نقرأ رواية” ليالي تماريت ” ندرك أنها انكتبت من خلال تناصها مع مجموعة من النصوص ، و قد تحقق هذا التفاعل على سطح النص عبر مجموعة من المستويات :

1 – التناص على صعيد العنوان :

إذا كانت للنصوص ذاكرة ، وكانت لها سجلاتها من حيت انكتابها انطلاقا من نصوص أخرى محولة، فإن القراءة بدورها تؤسس ذاكرتها انطلاقا من اشتغالها وتفاعلها مع نصوص سابقة عن النص الجديد. وهذا يتحقق بواسطة بعض العلامات النصية أو المؤشرات المضمنة في النص ، فبمجرد قراءتها يتم استدعاء نصوص سابقة و استحضارها ، وهكذا تتوالد الأسئلة :
كيف تعالقت مع هذا النص ؟ ماذا أضافت إليه؟ وكيف تم اقتباسها من أصلها؟ إن كان هناك أصل ؟؟
انطلاقا من عنوان الرواية ” ليالي تماريت ” يستحضر المتلقي نصوصا سابقة مثل نص الليالي المعروف ثم نص ” ليالي تماريت ” للشاعر الإسباني غارسيا لوركا . وتماريت اسم القرية التي ولد فيها الشاعر لوركا. وهي تقع ضمن أملاك غرناطة، كما أنها تعني اسم العاشقة بالأمازيغية.

2 – التناص على صعيد الشخصية :

تعد الشخصية في النص الروائي بناء ودليلا ثقافيين ، يحفلان بمعاني ودلالات غنية . إنها لا تحضر إلى عالم الرواية، ولا يسند لها الروائي أفعالا من غير أهليتها لذلك. إن الشخصية هوية تاريخية وقيمة رمزية أو حمولة ثقافية. وإذا عدنا إلى رواية ” ليالي تماريت ” نلاحظ أن شخصياتها المحورية انبنت بدورها من خلال آلية التناص التي أغنت قيمتها الدلالية ووسعت من أفق تلقيها عند القارئ.
– غادة : اسم علم للشخصية الرئيسية في النص ، تحمل في ذاكرتها المعجمية معاني مثل النعومة و الليونة وهي صفات خاصة بالمرأة والنبات . فالغادة من الفتيات الناعمة واللينة. والغيداء: المرأة الرشيقة. والأغيد من مالت عنقه ولانت أعطافه. ومن الدلالات الحافة بهذا اللفظ نجد أيضا: الأغيد من غلبه الكرى أو الوسن. والأغيد أيضا هو الوسنان المائل العنق …هكذا تكشف ذاكرة الكلمة معجميا عن طيفها الدلالي. فإذا كانت غادة امرأة في الرواية فهي تحمل صفات الرشاقة والنعومة والليونة. غير أنها تفقد صفة من غلبه النوم ومالت عنقه، بل هي هنا مغلوبة ومقهورة بالأرق نقيض النوم.
ومن بين المتناصات في ما يخص العلامة “غادة ” هناك “غادة السمان ” الكاتبة والأديبة السورية، التي أحبت العلم والأدب كما شغفت بالتراث العربي. و من بين ما تشترك فيه الغادتان :
– التأثر بموت الأب تقول الساردة : ” ليت أبي كان حيا . أشياء كثيرة تغيرت. كنت قريبة جدا منه ، وبوفاته فقدت حليفا كبيرا وصديقا رائعا . خطفه الموت باكرا . ”
– كتابة وتدوين الرسائل ، فغادة الشامية كتبت رسائل إلى كل من غسان كنفاني وأنسي الحاج، في حين كانت غادة في الرواية تدون رسائلها دون أن تبعث بها إلى فريد العطار.
– الانهمام بالشعر كتابة وقراءة، تمثلا وتأويلا، رؤية وتعبيرا، فالشعر عندهما تصوير للحياة كما أن حياتهما دونتا شعرا.
– الموقف التحرري: إذا كانت لغادة السمان في تجربتها مواقف تحررية من كثير من القضايا والظواهر مثل معركتها مع الحب، وكونها لا تمثل المرأة المحبوبة المستسلمة المسلوبة الإرادة، بل سعت إلى بناء شخصيتها بناء مخالفا للمعتاد والمألوف، ذلك البناء المتأسس على ثقافة المحافظة. وكذلك هو الشأن في ما يخص بطلة الرواية التي اتجهت اتجاها غير تقليدي في علاقتها بالعطار، ثم في شكل وصيغة انفصالها عنه ثم كذلك في طريقة تحررها من ثقافة المحافظة.
كما تحضر عند القارئ ” غادة الكاميليا ” حيث تألمت مارغريت غوتييه كثيرا من تصرفات زوجها أرماند وقد اشتركت البطلتان في :
– تجربة الحب العميقة و المؤثرة .
– القسوة على المرأة اجتماعيا.
تضحية المرأة بالنفس.
وبالعودة إلى الرواية، و من خلال سيرورات الأحداث اتي تحكيها غادة، فهي عاشت تجربة حب عميقة مع العطار ثم ضحت بنفسها بعد اختيار العطار قرار الإجهاض أو الإسقاط ثم هناك مظاهر مختلفة للقسوة اجتماعيا على غادة.
فريد العطار: يوحي هذا الاسم بفريد الدين العطار في عالم التصوف، فأين يشتركان وفي ما يختلفان أو يتفارقان؟
من خلال الاطلاع على الترجمات الخاصة بفريد الدين العطار و فريد العطار في الرواية ، يقف القارئ عند النقط التالية :
– نظم الشعر أو التعبير عن كثير من الأفكار شعريا .
– موت الأب، ففريد الدين العطار تفيد التراجم أنه فقد والده وكان لذلك أثرا في صياغة حياته. كما أن فريد العطار في الرواية لم يذكر والده في الرواية مما يفيد غيابه والغياب موت.
– التعلق بالأم: تفيد سيرة فريد الدين العطار أنه كان متعلقا بأمه ، ونفس الأمر ورد في الرواية بخصوص فريد العطا ر: الله يعطيك الصحة ما عندي ما نقول، طاجين خرشوف حقيقي لا غبار عليه و كأن لالة رقية هي من أعدته. ثم استطرد قائلا: امزح فقط ، ليس إلى هذه الدرجة ، لا طبيخ يعلو على شهيوات أمي .
أعرف هذا جيدا خالتي رقية، طباخة ماهرة أكيد، لكن الرجل على العموم يبقى أسير أذواق أمه ، مهما طال به الزمن ….”
– الموت أو طريقة الموت : تفيد الروايات أن فريد الدين العطار قتل من طرف المغول ، وفريد العطار في الرواية قتل بسبب حادثة سير في الطريق السيار
لم يحضر البعد الصوفي في تجربة العطار هنا في الرواية ، لأن رؤيته ليست دينية ، بل حداثية، إنه متمرد على الطقوس والعادات، ساع إلى استنبات نماذج غربية في تربة الثقافة المغربية خاصة و العربية عامة، منتقد للعادات و التقاليد المغرقة في الماضوية، يقول في حوار مع غادة منتقدا تقاليد الأعراس المغربية : ” تضحكني مسألة الحفاظ على العادات هاته ، وكأنها مهددة بالانقراض. انظري حولك، ستجدين كل شيء يكرس العادة. نحن كائنات تراثية بما في الكلمة من معنى. نحن لم نضع قدما في الحداثة، لنخاف منها على التقاليد، أيتها المجنونة. الدليل، ما تودين القيام به …..”
ونلاحظ أن فريد العطار يختلف عن فريد الدين العطار في إسقاط ” الدين ” من الاسم وإسقاط ركن من بنية الاسم إسقاط لكم دلالي، كما أن إضافة عنصر جديد إلى هذه البنية تعني إضافة كم دلالي جديد، وإسقاط الدين هنا تعني إسقاط الرؤية الدينية لدى فريد العطار، وهذا الأمر يتجلى في موقفه من الإنجاب . تتذكر الساردة موقف العطار من هذه المسألة : التاريخ لن يعيد نفسه معي، خسارة واحدة تكفي ، نكبة واحدة تكفي . لماذا تصرون على تفريخ التعاسة . بالله عليك أعطني شيئا واحدا يمكنه أن يحفز الإنسان على الإنجاب في ظروف كهذه . لا مدرسة …لا مستشفى …لا مقبرة …يمكن للإنسان أن يرقد فيها بسلام . انظري مقابرنا ، و اعدلي عن أي فكرة مجنونة اسمها الخلفة . قليلا من الاحترام للخلفة. ”
كما أن غياب المنظور الديني لديه يتأكد في موقفه من الإجهاض . في حوار بين غادة و العطار ، يقول العطار :
– لقد حددت موعدا مع الطبيبة من أجل الإجهاض. قالها ببرودة كأنه يقترح الذهاب لنزهة .
– و ما أدراك أني سأجهض ؟ قلت بلهجة غاضبة .
– تعرفين رأيي مسبقا في المسألة ، أنا لست مستعدا لأكون أبا واتفقنا على هذا منذ البداية . لعلمك أي إنسان أتى إلى الوجود دون رغبة الأب أو الأم يعتبر لقيطا ….” وبالنظر إلى الحجج التي قدمها العطار والتي تخص موقفه من الإجهاض مثل: رغبة الأب وكون الإنجاب التزام أخلاقي بين الوالدين وتوفير شروط العيش المثلى ….” لا تستند هذه الحجج إلى مرجعية دينية.

3 – التناص على مستوى الليالي :

لكتاب الليالي ” ألف ليلة و ليلة ” أثره الواضح على الإبداع الروائي العربي ، حيث هناك استثمارات غنية لهذا النص فنيا و دلاليا ؛ استلهاما و ترميزا ، محاكاة وتهجينا. ويعرف المشهد الروائي العربي حضورا قويا لهذا النص. ورواية ” ليالي تماريت” سجلت تناصها مع هذا المكون التراثي من خلال لفظة ليال، إضافة إلى طريقة الحكي أو السرد حيث تروي البطلة تجربتها مع الأرق باعتباره خصما مهددا لكيان البطلة.
4- التناص مع رواية : ليليات امرأة آرق
يبدأ الحكي في هذه الرواية من لحظة تغيير في حياة البطلة سعاد ، وهي دكتورة في أمراض الجهاز التناسلي، وقد صاحب هذا التحول تغيير في رؤيتها لذاتها و للأشياء من حولها وللناس . وتشترك البطلتان غادة و سعاد في ما يلي:
– البطلتان غادة وسعاد تدونان ليلياتهما.
– البطلتان مهيمنتان على السرد ، فهما السارد والموضوع .
– غلبة التذكر والاسترجاع و استحضار الماضي في الحاضر عبر توظيف تقنية التكثيف.
– السرد الذاتي : حيث خلال حديث البطلتان تحكيان عن ذاتيهما ، عن أناهما ، وهذا النمط من الحكي يغطي مسار الرواية ككل و إن كانت هناك موضوعات حافة أو جانبية .
– توظيف تقنية الاستبطان الذاتي أو ما يعرف بالتداعي الحر أو انهيال الشعور.
– خيبة أمل المرأة في الرجل .
إن قراءة الروايتين معا تكشف عن مساحة مشتركة بينهما فنيا ودلاليا، تعبيرا و رؤية.
من البعثرة إلى الانتظام :
هل المرأة كيان مبعثر؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، وجبت استشارة المعجم العربي عن دلالات البعثرة، وما تتضمنه من معان ، لن الوقوف عند معاني هذا المصطلح قد يفيدنا في فهم وضع المرأة خاصة والإنسان عامة . فتاريخيا حقق الإنسان انتقالا من حالة التشظي والارتحال أو البعثرة : ” الوجود في حالة الطبيعة ” إلى الاستقرار والانتظام داخل أنساق تنظم العلاقات البين إنسانية وترتب شؤون العمل و قواعد السلوك .
يفيد المعجم أن البعثرة تحمل طيف دلاليا أهم معالمه :
– التفريق و التبديد .
-القلب و الهدم.
– الاستخراج أو البعث …
إذا كانت البعثرة ضد النظام أو الانتظام ، أي هي وصف لحالة من حيث أشياؤها ومكوناتها ، أي بنيتها. وإذا كانت المرأة كيان أو بنية نفسية ووجدانية و فكرية وجسدية، فقد تتبعثر هذه المكونات أو تنتظم ، أي من الممكن أن تعرف البعثرة طريقا إلى كيانها أو تحافظ على انتظام بنيتها . وبالنسبة للبطلة في الرواية، فتبدو كيانا قلقا مبعثرا، تسعى إلى إعادة الانتظام لكيانها عبر جبر انكساراتها الداخلية. فأين وكيف تتجلى البعثرة لدى البطلة؟
تتوزع تجربة البطلة في الرواية إلى :
1 – عشق البطلة لفريد العطار و هو يمثل مظهر التكامل و الانسجام أو التماسك .
2 – الانفصال أو الطلاق ، ويمثل هنا البعثرة والتشتت .
3 – العمل والاستقرار، وهو مظهر آخر للتكامل أو إعادة بناء الذات وبالتالي الخروج من عالم البعثرة أو التشظي .
تكشف الدراسات الأنتروبولوجية والاجتماعية أن المرأة لا تكتمل وجوديا إلا بالآخر، فالبطلة متأثرة ومعجبة بأبيها، كما أنها معجبة وعاشقة للعطار ثانيا، وكأن الأب والعاشق في مرحلة أولى أو الزوج في مرحلة ثانية هما الفاعلان المحوريان في تماسكها و غيابهما أحدث زلزلة في كيانها و بعثرة في وجودها، ويؤكد هذا الوضع أن الفاعل التاريخي في المرأة هو الآخر مما يضاعف من جهودها في صيرورة تحررها ونجاح رهان استقلالها .
العشق منح البطلة انتظاما وأعطاها تماسكا وحققت نجاحا، وبالتالي اكتمل وجودها . إن عشق العطار أعاد تركيبها وصياغتها بصورة مختلفة عن صياغة الأب.
للعشق أثره الواضح في صياغة وجدان البطلة، هذه الصياغة فاصلة عن صياغة الأب من جهة، وصياغة الزوج من جهة ثانية .
كانت البطلة تراهن على أن الزواج المتأسس على العشق سيقويها ويضاعف تماسكها ويغني تجربتها، غير أن الزواج كمغامرة محفوف بالمخاطر التي تتعدد وتتنوع، ونقيض الزواج الانفصال أو الطلاق وهذا ما أحدث زلزلة و بعثرة في كيان البطلة .
بعد الانفصال تبدأ مرحلة الصياغة الذاتية والتي تتحقق من خلال التخلص من الآثار السلبية للانفصال والاستعداد لمواجهة الواقع من جديد، لأن موقف المرأة المتزوجة أو المستقرة في أسرة من الواقع مختلف عن موقفها وهي مطلقة ( اجتماعيا ونفسيا وفكريا وماديا ).
لقد سعت البطلة بعد مدة أو فترة من الحياد السلبي من الحياة والعلاقات والمعرفة …إلى الخروج من هذه الوضعية التي أضحت تؤرقها بالقوة والفعل . وهذا لا يتأتى إلا بالتأهيل المعرفي ثم العمل والاستقلال ..
– تملك البطلة غادة أهلية معرفية، إذ لها مستوى معرف أكاديمي، إضافة إلى سعة اطلاعها ومتابعتها للشأن الثقافي محليا وعالميا، وهذا يظهر من خلال نقاشاتها وحواراتها السابقة مع فريد العطار.
– كما أن العمل منحها روحا جديدة ، وخلصها من أزمة العطالة أو أن تبقى عالة على أسرتها. لقد أصبح العمل نشاطا يخفف من حدة أزمتها ويحررها من إمكان تبعيتها لغيرها ماديا ويفتح أمامها علاقات إنسانية جديدة .
– إضافة إلى هذين الشرطين، هناك الاستقلال في العيش والسكن ، حيث اكترت شقة بعيدة عن أسرتها ، هذا النمط من العيش سيمكنها من ممارسة طقوسها وهواياتها وخاصة القراءة والكتابة والسهر….
بهذا التحول ، عملت البطلة على تجديد وضعها داخل النسق الاجتماعي وأعادت تنظيم علاقاتها من جديد مع أسرتها وأصدقائها وواقعها وذاتها …لقد انتقلت من حالة البعثرة إلى حالة الانتظام والتماسك ، كما انتقلت من حالة المتأثر ، المنفعل ، إلى وضعية أو صيغة الفاعل .

خاتمة :

رواية ” ليالي تماريت ” نص سردي بنكهة شعرية، حيث يتداخل السردي مع الشعري ، وهو من النصوص الروائية التي منحت الكلمة للمرأة في التعبير عن تجربة تكاد تكون عامة في حياة المرأة العربية . وذلك من خلال التعبير عن ذاتها وعن علاقتها بالرجل – كعاشق وزوج وصديق …- وما أضافته إليها من معاناة أو دعم معنوي. والكتابة في هذا النص تأسست على خبرة المؤلفة في الشأن الثقافي وموضوعاته، وفي الشأن السياسي ورهاناته ، وفي الإبداع الفني وأجناسه …كما تندرج ضمن الخطاب النسوي الذي يساجل قضايا الفكر الاجتماعي والسياسي المهيمنين من خلال تناول بعض الأسئلة التي لاتزال تطرح أمام الخطاب النسوي التحرري ، وهذا ما جعل الكتابة هنا في هذا النص تصدر عن موقع المرأة الحداثية التي تؤمن بقضية المرأة و تناضل من أجل تمكينها والاعتراف بها .


الكاتب : د. المصطفى سلام

  

بتاريخ : 29/05/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *