«من غير أن يمسه الماء» للشاعر المغربي محمد العرابي : تجربة اختراق حدود الرؤيا

دأبت على ما يشبه النظرة اليومية الخاطفة والمرور العابر بالمخزون الشعري لبعض المنابر الإعلامية، وقلّما استوقفتني وتستوقفني النصوص القوية الجديرة بالدراسة والتمحيص وإضاءة جوانب المسكوت عنه،فيها ، تعميما للفائدة واعترافا بالقيمة الفكرية والجمالية الكامنة في طراز كهذا من الممارسات الإبداعية .
ومما يؤسف له الحشو الإعلامي الإعتباطي ومجانية استقطاب النصوص ،دون تخصص، على شاكلة تتيح استفحال التّجنّي على الذائقة .هي فوضى عارمة لدرجة فقدت معها القصيدة حصنها المنيع وهيبتها وهالتها وباتت في العراء تحت أطماع من هبّ ودبّ.
ويتحمل صنف من النقاد قسطا من مسؤولية ما آل إليه واقع المشهد الإبداعي العربي الحالي عموما،كونهم ينحازون في الدراسة والتقييم إلى الأسماء الشهيرة ذات الصيت المتقادم بينما يتحاشون الأقلام الشابة الواعدة الجديرة بالتّبنّي والدعم النقدي،وهي معضلة آنت جرأة مقاربتها وملامسة أبعادها ،إنقاذا للراهن الأدبي من جرثومة إفساد الذوق الفني وتخدير العقول .
كانت هذه توطئة لمقاربة مادة أدبية ثرية بالآليات المعرفية والفنية التي تؤهلها لنفض غبار رفّ النسيان عنها، وتمنح صاحبها الشاعر المغربي  محمد العرابي ما يستحقه من عناية واهتمام نقدي احتفاء بمجهوداته المضنية، وانشغالاته بالترجمة والشعر على حد سواء.
لعل من أبرز إيحاءات النص المنتقى من باكورة أعمال شاعرنا وأول مجموعاته الورقية «من غير أن يمسه الماء» جنوح محمد العرابي إلى فتح باب في سماء الشعر الحداثي، مع مراعاة تقديم الجديد والإضافي للساحة ،وتفادي السقوط في فخّ النمطية واجترار بنات حلق وخصوصيات تجارب الرواد مهما بلغت صولتهم ولمعت أسماؤهم.
سليل الكواكب
من أول وهلة يضعنا الشاعر إزاء معراج روحي مفتوح لا نهاية له ولا أسقف، وكأنما يحاول ضخّ قناعات تؤمّم الأسمى والأرقى والأصيل فينا، الأشد زئبقية وتفلتا مناّ والمغلف بإنسانية ما تنفك تتوارى وتحتجب لحظة نزيغ أو نحيد عن مسارات الصوفية ونواميس الفطرة والكون.
«للندماء خمرة العناب
للعناب صحوة الدم المتخثر في عروق تستنبت الصبّار
بالشهوة وبالشهوة المكلومة يتخطّر الريحان ويمتزج
النبيذ المندوف بهذا الزفاف الذي زين صدري
بالعراجين وفضائي بالأناشيد،كي أنسى الفصول
كي أنسى وأنسى من أكون.وتكبر فيّ
جذور المرايا وأتأبط قوسي المكسور: جسارة».
هي فسيفساء متناغمة متماسكة من رذاذ المكنون أماطت خمار العذرية عنها عنونة موغلة في الرؤى الفلسفية العميقة. وأحد مفاصل النص النابض بالخطاب الصوفي الممكن من تصوير المعاناة كما هي، بل وأجمل وأشهى مما هي عليه.
للندماء/ للعناب/بالشهوة وبالشهوة/بالعراجين/كي أنسى وأنسى…
قصدية التكرار هنا إنما أتت كلون من الضغط على المعاني الموصلة إلى جغرافية مغايرة ومناخات هلامية للتجربة ،عبر إعادة إنتاج التفاصيل وبلورتها على نحو يمنحها سيمياء التجاوز لا الإستنساخ. فالدم المتختّر كناية عن برودة الأعصاب، والصبّار محيل على الصبر وتحمل القحط ما يصب بالنهاية في خانة إحدى معاني الماء، المانوية تحديدا .
وربط طقوس الزفاف بالصدر/الروح عوض الجسد، أتى متكئا على ايديولوجية رفض الأعراف السائدة المحتفية دوما بالدم، كثقافة شعبية مغربية متجاوزة، أو بالأحرى يفترض أن تكون كذلك(تطلع الحضور إلى رؤية الدم على منديل لحظة الدّخلة ليلة العرس واستنفاذ أنفاس الشوق حرقة إلى هكذا مشاهد النزيف احتفالية بالفحولة والبكارة وامتهانا للعجز الجنسي( إذ العرس مناسبة للتصالح مع الذات، والتحرر من عادات بالية مستنبتة لكل ما يشوّه الملامح ويحول دون مجابهة مرايا الحقيقة التي من درر انعكاساتها المشافهة بكون القوس مكسورا وقد يخذل كسلاح أو شكل نضالي معيّن ،مكرّس للثقافة المواكبة والمنتصرة للجذر الإنساني انتهاء.
وكمفصل ثان لهذه الفسيفساء من البوح الذهني المتسامي على الإرتجالية،كونه يمتاح من عصارة التجربة العميقة ويرتشف رحيقها،ويجسد عضدا ضمنيا يزيد من نسق النص ومتانته ويقوّي لحمته التعبيرية. كمفصل ثان للنص الجمل المكثفة والمترعة بالإنزياحات والمغرقة في الترقيم،والمنزلة كتعريفات أو تفسيرات لما سبقها من همس دافق بالرؤى المتحررة من الإنجذاب إلى سلطة العادة والعرف المترنم بعقيدة البوم الباعثة في نهاية المطاف، على تبلّد الإحساس وتحجّره.
«أن أتجيش بالحبر والليل رقّشني،بلّلني نداه قبيل
الفجر.هبني سليل الكواكب والغيوم أمسحها
كما أمسح الدموع،والجبال تتقرفص بحضرتي كشيخ
ربما يقرأ ترتيلته الأخيرة،هبني ساحر العصور
والجباه النيئة تتقوس وتنحني بينما تأبى شكيمة
الريح الإنحناء،هبني نزلت في دمي المتوحش،هبني
أسافر في ليلة الخطر… وأنت ساكن تنعرج فيك
الصخور كما تنعرج المياه وتنام ــ أفي هذا الليل أنت
تنام›؟ ومن حولك مواقد دائبة لإنضاج النجوم
وعابرون… وهذا الثقب في مصراع الغبار يومئ
لكنك تنام بأقدام الجزر يعضدك اكتحال الشطوط
ووجوم المطر،ولا تحرسك غير الأجداث».
إن هذه الوحدة العضوية الثانية، أو مفصل القصيدة الثاني، فضلا عن جرده وفق أسلوبية متوحشة الدم على حد لسان الشاعر صاحب المادة المنقودة، جرده لمقابلات الخطاب المتسمة الوحدة العضوية الأولى/الخمرة المادية كنقيض أو ضديد لها هنا المداد وتعاطيه كخمرة للروح ارتقاء بها و… شموخ الصّبار ومقاومته الرهيبة هناك كمعادل مقابل له هنا الجباه المنحنية، ومثله في النص متوفر وكثير.
إضافة الى ما سبق ،زجّ الشاعر بتقنية وآلية تعبيرية جديدة متمثلة في مجادلة القرين لمنح المتلقي خيارت القناعة التي في مقدورها الإجابة عن أسئلته، وإطفاء جمرة عطشه المعرفي ومن ثم اتخاذ القرار الصائب حول جدلية العرف/التقليد والثقافة الحداثية المواكبة، أينتهي به المطاف ليكون مع أو ضد.
«…….. وأنت ساكن تنعرج فيك
الصخور كما تنعرج المياه وتنام ـ أفي هذا الليل أنت
تنام›؟ ومن حولك موقد ذائبة في إنضاج النجوم».
كمعادل موضوعي لهذا، كل معارض للثقافة الظلامية كما تشتهيها حفنة ممن ينصّبون أنفسهم آلهة  خضوعا لساديتهم التي تجهض الإجتهاد البشري، وتضع العرف والتقليد  كمقابل للمقدس وعلى كفتي ميزان واحد . هكذا يزداد البون شساعة وينأى الرّكب المتحضر ويمكث ضحايا هكذا رؤية للوجود ضيقة وشاذة ودوغمائية، يمكثون أسرى راهنهم محكومين بتبعية عمياء وانقياد تام إلى ما يعمّق جهالتهم وتخلفهم ودونيتهم.
«ـ أراك تحرس المقامات بامتعاض
أنت يا صديقي أنت…
وأنا هل ينتظرني غير اندلاع الظهيرة في المفاصل التي
أنهكت ثخوم النهار وأشرف عسل سفادها على
الإتفاد.ولهاثي المذعور لايقفوني إلا مواربة، سئمت
اللهاث المنشوب بالسواد، بل سئمني شطط الوريد
معترشا حرف جهالتي حتى قيل ساحة يندلع فيها
السباب… «.
هو السّباب إذن… أكثر ما يُجنى من ذاكرة مترهّلة مثقلة بالتقاليد الجوفاء، تحاصر الساحة حتى ليغدو ما عدا النضال الكلامي مجرد لهاث منهك يقطع بسيف الجهالة الدروب السالكة المفضية إلى بناء وضعية جديدة مغايرة للسائد، وهو يدمن استعباد المتشبعين بطلاسم التقاليد الزائفة المتجاوزة المؤثرة سلبا وبشكل قوي في العلائق بالذات فالآخر فالمحيط.
هذا من ضمن ما يشي به مفصل القصيدة الأخير كوحدة عضوية ثالثة تفتح أعين قلوبنا قبل عقولنا على آفة  صمّ الآذان عن أبواق النقيق المكرسة لتوأمة التقليد والمقدس، تقيدا بإملاءات نوايا خبيثة تعطل البصيرة وتغيّب إنسانية الأنسان.
والمادة التي أضأنا البعض من جوانبها الزاخرة بمواصفات شعرية الحداثة، تشهد لصاحبها بالتميز والتمكن.


الكاتب : احمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 24/05/2018

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *