نزيف القصة في « الدماء لا تنبت القمح » للتونسي حسن سالم

بعد أن أصدر القاص والروائي التونسي حسن سالمي مجموعتيه القصصيتين « التيه» وزغدة « ، وروايته « البدايات « ، أطلق مؤخرا عن الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع ، مجموعة قصصية تحمل عنوان « الدماء لا تنبت القمح «

متنيا ، تحتوي المجموعة مائة قصة موزعة على 131صفحة ، أما قراءة الميثاق التجنيسي المثبت تحت اللوحة التشكيلية مباشرة ، أي كلمة قصص قصيرة جدا ، فتجعلنا أمام تراكيب سردية مصغرة ومقطرة ، لنجد نصوصا متفاوتة في التكثيف ، حيث يشكل نص» أنا الموظف « اقصرها وأطولها لا يتجاوز الصفحتين ، ويعني هذا أن القاص لم يتشدد مع حبره وتركه ليتمدد طولا على فراش الورق النصي أحيانا ؛ تساوقا مع حالاته موضوعاته القصصية.
و المقبل على غلاف قصص المجموعة يثير فضوله عنوانها « الدماء لا تنبت قمحا» ، فهو بقدر ما يفتح الشهية يزعجها ويربكها ، لأن القاص يباغتنا بعنوان تقطر منه الدماء ، وهذا يعني أن القارئ سيكون أمام قصص تتخذ الدم موضوعا لها ، وأن قصص المجموعة ستقدم لنا الدم من داخل القصة وفي أجواء كافكاوية ، خاصة وأن هذه الدماء لا علاقة لها بالقمح الذي يحيل على الإنبات والخصوبة والاخضرار .
وعليه ، يكتسح الدم والرعب فضاء العديد من القصص « الوريث ، حجارة ، إرعاب ، الهاوية ، ظلام …» ولا يبدو أي اثر للتسامح والحوار والتعدد ، ومن ثم يتبين للقارئ أن اختيار « الدماء لا تنبت القمح «» عنوانا ا للمجموعة كان اختياراً موفقا، ومطابقا لفضاء هذه القصص ودلالاتها ، إنه فضاء ثقافة التطرف والتقتيل ، بعنفها وظلاميتها.
بهكذا دم في الكثير من النصوص ، تكون «القصة ق جدا» قد استطاعت كما باقي الأجناس الأدبية أن تتخذ من سؤالي التطرف والتعصب موضوعا لقصصها ، وأن تقدم جوانب من هذا الواقع المأزوم الذي استفحل فيه الفكر المتزمت للجماعات الإسلامية المتشددة « ، ومن نماذج هذه المواجهة القصصية التي تميط اللثام عن هذا تجربة القاص التونسي حسن سالمي .
فما الذي تحكيه قصص « الدماء لا تنبت القمح « عن الدم والتقتيل ومشاهد الموت اللاسعة والجارحة؟ وكيف تحكيه ؟
في قصته «الوريث «، تغدو الثقافة الصفراء ذات النزعة الدينية المتطرفة والفاشية ، تعبئة وشحنا للعقل البشري بأحلام التفوق الإيماني، ومن ثمة قتل كل وعي نقدي، وتعطيل ملكة التفكير الحر، وممارسة الإرهاب والتكفير والتعصب ورفض الآخر ، وحتى تفجيره ،نقرأ في قصة « الوريث « ص :26
« قرأ كتابا اصفر حتى امتلأ صدره بالغبار ، ثم خرج على الناس في وسطه حزام ناسف ، وفي يده مدفع رشاش، وأحلام من زمن داحس والغبراء.
« وفي محاولة ذكية وتناصية مع القرآن ، يهزم الشاعر التطرف من داخله واستنادا إلى مرجعيته ، وهكذا يغدو نزول السكين على رقبة الطفولة قتلا للنفس المحرمة كما ينص عليها دستور وقرآن المتطرف « |وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ « ، نقرأ في قصة « ذات الرجع» ص 2 «
وسط تكبير لم يرتفع إلى ما بعد راية سوداء ، نزل بسكينه الصدئة على رقبة طفل .. انبثقت الدماء فوارة تكتب على الأرض : قتلت الناس جميعا «
في إحدى قصصه المعنونة ب» إرعاب « ، صورة عميقة لهذه الرؤية السوداوية والمتطرفة ، حيث المزاوجة بين معنى الموت – الذبح ومناخاته المرعبة ، وبين معنى شبح الخوف من هذا العنف ، ولعل عنوان القصة « إرعاب « يرسم ويختزل صورة عميقة لهذه الرؤية :
« ما برح التلفاز يتقيأ دما وقيحا ..
تلتصق بي ابنتي ، حتى لكأنها تختبئ بين جلدي ولوني ..
حبيبتي ، ما بك
أنا خائفة
مم
من السبي
إني معك فلا تخافي
لقد ذبحوا العسكر ، فهل أنت أقوى من العسكر ؟ ص25
إن ما تحكيه البنت هنا بلسانها يرسم مشهدا مفزعا لا يبتعد كثيرا عن إيحاءات التطرف في أشكاله الكثيرة ، عبر سلسلة الألفاظ التي تحيل على « دما ، قيحا ،خائفة ، السبي ، ذبحوا العسكر « ، ويبقى السبي سلوكا ضاغطا وباعثا على الخوف وشكلا من أشكال قهر ودونية المرأة في الفكر المنغلق على دوائره . إنه التطرف الضرير ،الذي لا تسمح عوالمه السادية سوى بالدماء التي تسكب والأرواح التي تزهق ، بألم جارح ، ولا تعني رحى الموت والعنف براءة الأطفال وكأداة لوخز هذا الواقع وتعريته من خلال الضحك الأسود عليه ، يلجأ القاص إلى السخرية اللاذعة التي تدين تفاهة التفكير الديني الأصولي ، نقرأ في قصة « أما بعد « ص 119
« ونار مارني مثلها قط ، تحشر الناس من شرق الأرض إلى غربها ، صعد الإمام المنبر بلحية تبلغ ركبتيه ، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد ، موضوعنا اليوم حول صفة ضراط الشيطان «
في هذا النص يرسم القاص صورة ساخرة ومبكية بالمثل ، تتمثل في حال التفكير الديني الذي وصل بالعقل إلى قمة أسطرة التخييل الديني وتقاويله الخرافية ، وأمام هذه الحال المبكية ، ما ذا يملك القاص سوى هذه السخرية اللاسعة لتلوين منظوره السردي وللضحك المر على هذا الواقع المكتظ باللعب والمفارقات .
ولا يتوقف نزيف الدم عند حدود معينة أو صورة محدده ، بل يتجاوز ذلك إلى أن تتجسد في الكثير من الأفعال التي تتحكم فيها خلفية معرفية تنبني على التفوق الديني وإلغاء الآخر وبكل اللغات والأشكال . وطبيعي بالنسبة لقصص تتحرك في فضاء ملبد بالنسف ، منذور للموت والمفاجآت والانفجار ، أن تكون لغته موازية ومطابقة لهذه الطقوس الشبيهة بالقيامة ، وللوقوف على طبيعة هذا القاموس المبثوث في كثير من النصوص نقرأ مثلا « حزام ناسف ،مدفع رشاش ، بسكينه الصدئة ، الدماء فوارة ، قتلت الناس ،دوى الانفجار « وفي سياق انفتاح الكتابة على آفاق واسعة ، يستحضر القاص نصوصا غائبة ، ساخرا من بعضها كما في قصتي « الوريث « :» انبثقت الدماء فوارة تكتب على الأرض : قتلت الناس جميعا
« لا شك في أن هذه النصوص وغيرها كثير تندرج في سياق الكشف الوامض عن واقع قابل للانفجار والنهايات التراجيدية والدموية في أية لحظة وحين ، عبر نحت قصص جائعة لفظا ومشبعة بالمعنى ، معنى الموت والخوف من هذا الموت . وقبل إسدال ستار هذا التمرين النقدي
لا يسعنا إلا أن نثمن هذه العين القصصية التي التقطت أشكالا من العنف والموت والتطرف ، ونثمن بالمثل ، لجوء القاص حسن سالمي إلى القصة القصيرة جدا ، بعد تجربة روائية وتجربتين قصصيتين «قصيرتين» ، كما نأمل أن تنفتح نوافذه أكثر وأكثرعلى القصة الوامضة ، وأن يتمخض غده القصصي عن بصمةٍ مميزة لعين ذكية تطل على الحياة من ثقب الباب ، وتحية قصصية للصديق حسن روائيا وقاصا وإنسانا .


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 14/06/2018