هل تعيش إيران على وقع حروب داخلية؟

 

نشرت صحيفة «أ بي ثي» الإسبانية تقريرا تحدثت فيه عن الحرب الداخلية التي تعيش على وقعها إيران في الفترة الأخيرة، تزامنا مع الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية.
وقالت في تقريرها إنه تزامنا مع احتفال إيران بالذكرى الأربعين للثورة الإسلامية، ازدادت الضغوط الدولية والداخلية على السلطات الدينية في طهران. وقد نظمت الولايات المتحدة قمة لمدة يومين في بولندا حول «الاستقرار والسلام» في الشرق الأوسط، انتهت بدعوة مفتوحة إلى شن حرب ضد إيران، معتبرة ذلك الحل الوحيد لضمان الاستقرار الإقليمي.
وبينت الصحيفة أنه في الوقت الذي يعمل فيه الأمريكيون والإسرائيليون والسعوديون على تعزيز تحالفهم في وارسو، ضرب الإرهاب الحدود الجنوبية الشرقية لإيران مرة أخرى.
وقد أسفر التفجير الانتحاري الذي تبنته جماعة «جيش العدل» عن مقتل 27 عنصرا من الحرس الثوري الإيراني. وفي كردستان الواقعة في الشمال الغربي، وبلوشستان في الجنوب الشرقي، وقعت اشتباكات مسلحة بشكل متكرر. وتتهم طهران علنا الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية بتمويل ودعم الجماعات المسلحة لمحاولة زعزعة استقرارها.
وأوردت الصحيفة أن قوات الأمن الإيرانية تواجه تهديدا مزدوجا من قبل حزب الحياة الحرة الكردستاني، الفصيل الإيراني لحزب العمال الكردستاني، و»جيش العدل»، وريث الحركة المسلحة «جند الله» التي جرى تفكيكها سنة 2012؛ وهما مجموعتان مسلحتان منبثقتان عن الأقليات الكردية والبلوشية في بلد ذو أغلبية فارسية.
إلى جانب هذا العامل الطائفي، تجدر الإشارة إلى أن السكان السنّة بالكاد تصل نسبتهم إلى 10 بالمئة من إجمالي عدد السكان البالغ حوالي 78 مليون نسمة معظمهم من البلوش والأكراد.
وتركز هذه المجموعات على النضال في المناطق الحدودية التي ينشأون فيها. وكلما أتيحت لهم الفرصة يهددون بتنفيذ أعمال عنف في جميع أنحاء البلاد، وخاصة في العاصمة، حتى تلقى قضيتهم صدى دوليا.
وأضافت الصحيفة أن العملية الأخيرة الكبرى لحزب الحياة الحرة الكردستاني قد حدثت في الصيف الماضي، عندما هاجم أحد العناصر الأكراد قاعدة تابعة للحرس الثوري بالقرب من الحدود مع العراق. وقد أودت هذه العملية بحياة 11 عنصرا إيرانيا، حيث توعدت إيران بالانتقام. وبعد شهر، شنت إيران هجوما بالصواريخ على قاعدة تابعة لهذه المجموعة في منطقة كويا بكردستان العراق.
وأبرزت أن البلوش لديهم أيضا مجموعة مسلحة تمكنت هذا الأسبوع من توجيه ضربة قاسية ضد الحرس الثوري من خلال تنفيذ انتحاري لهجوم بسيارته أثناء مرور حافلة تقل عناصر الحرس الثوري إلى منازلهم.
وفي الأشهر الأخيرة، زادت أعمال «جيش العدل» بشكل ملحوظ، وأصبحت هذه الجماعة مصدرا للصراع الدبلوماسي بين طهران وإسلام آباد. ويتهم الإيرانيون باكستان بعدم بذل جهود كافية لمحاربتهم. وبعد الهجوم الذي جد هذا الأسبوع، هدّد الحرس الثوري بمعاقبة الإرهابيين المتواجدين على الجانب الآخر من الحدود إذا لم يتخذ الباكستانيون إجراءات طارئة.
ونقلت الصحيفة عن المحلل البلوشي في مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية محمد حسن حسين بور أنه «يجب على السعوديين إقناع إسلام آباد بالتدخل لدعم الجماعات التي يمكن أن تساعد البلوش في إيران، فالتحالف بين العرب والبلوش متجذر بعمق في الخليج للتصدي للهيمنة الفارسية».
وذكرت الصحيفة أن جماعة «جيش العدل» قد حل محل حركة «جند الله» منذ 2012 لتكون على رأس تمرد الأقلية البلوشية. وفي أكتوبر سنة 2009، أدى هجوم انتحاري شنته حركة «جند الله» إلى مقتل 29 شخصا وإصابة 28 آخرين في منطقة بشين، كان بينهم قادة كبار من الحرس الثوري الذين كانوا يحضرون اجتماعا مع زعماء القبائل السنية والشيعية في المنطقة.
وأفادت الصحيفة بأن أجهزة الاستخبارات تعمل على منع الجماعات التابعة لتنظيم الدولة، الذي هاجم البلاد في مناسبتين اثنتين خلال سنة 2018، من تنفيذ المزيد من الهجمات.
وقد جدت عمليات إرهابية في إقليم الأحواز، جنوب غرب البلاد، حيث لقي 25 شخصا حتفهم. وقد ردت الفرقة الجوية التابعة للحرس الثوري الإيراني بإطلاق ستة صواريخ بالستية متوسطة المدى على مسافة 570 كيلومترا بالقرب من بلدة البو كمال على الحدود بين سوريا والعراق.

القوى السياسية في إيران

لم تكن المنظومة السياسية الإيرانية متجانسةً في أي مرحلة من مراحلها التاريخية؛ بل إنها دائما ما شهدت انقسامات وصراعات على خلفيات أيديولوجية ومؤسساتية وشخصية. وكما الحال في بلدان عديدة أخرى، تؤثر تلك الصراعات عميقًا في رسم ملامح السياسة الخارجية الإيرانية، حتى لو كنا بصدد الحديث عن دولة غير ديمقراطية. وباستطاعتنا الحديث عن انقسام الخارطة السياسة الداخلية في إيران خلال السنوات الأخيرة في ضوء معيارين اثنيْن:

المعيار الأول والأكثر تداولا على ساحة الخطاب السياسي الإيراني، هو ذاك القائم على التفريق بين من يؤكدون على البُعد الجمهوري – أي دور الشعب – للجمهورية الإسلامية، وبين من يُشدّدون على المكوِّن الإسلامي للدولة، الذي يمنح رجال الدين سلطة مطلقة، ويُحجِّم دور الشعب ويختزله في مجرد الإذعان لرجال الدين. إن الجمهوريين، وفي مُقدمتهم الرئيس حسن روحاني، ينحدرون في معظمهم من صفوف المؤسسات المنتخبة في النظام السياسي، أي الحكومة ومجلس الشورى الإسلامي (البرلمان). على الجانب الآخر، يمثل الإسلاميون الاتجاه الغالب بين رجال الدين، وفي مقدمتهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، ومن ورائه الحرس الثوري وميليشيا قوات التعبئة الشعبية (الباسيݘ).

أما المعيار الثاني الذي سيعتمده هذا المقال، فهو المعيار القديم نسبيا الذي ينطلق من قاعدة التفريق بين الإصلاحيين والمحافظين، لأن رحى الصراع بين هذين التياريْن لا تدور فقط حول مسألة الديمقراطية، وإنما تتعلق أيضا بمسائل أخرى مهمة، مثل: السياسات الاقتصادية الواجب تبـنِّـيها (من قبيل الاعتراف بضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية بنيويّة مقابل رؤية “اقتصاد المقاومة”، وإعادة تعريف العلاقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية)، والقدْر الذي تحتاجه إيران من الانفتاح على العالم الخارجي، والحد الذي ينبغي عليها ألّا تتخطّاه في الصراعات الإقليمية. إن كلا التياريْن جزء من النظام الحاكم، وكلاهما يرغبان في تأمين بقاء هذا النظام على المدى الطويل وفي تعزيز المكانة التي تبوَّأتها إيران كقوة إقليمية. لكنهما منقسمان فيما بينهما حول الإجابة عن سؤالين محوريَّـيْن: ما الخطر الأعظم الذي يتهدد النظام؟ وما الطريقة الـمُثلى لتأمين أهداف إيران الاستراتيجية؟

ما الذي يسعى إليه الإصلاحيون؟

إن الرئيس روحاني، الذي يعدّ أكثر البراجماتيين قُربًا من التيار الإصلاحي، سياسي محنّك؛ فقد سبق له أن تقلّد مجموعة من المناصب الأمنية الرفيعة، كان على رأسها الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي بين عامي 1989 و2005. الأمر الذي يعني أنه ليس مُفكرًا كما كان الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ولا يهتم كثيرا بالقضايا الثقافية والمسائل المتعلقة بطبيعة الديمقراطية الإسلامية وحوار الحضارات، التي شغلت اهتمام الرئيس الإصلاحي خاتمي. ومع أن روحاني لا يهمل هذه القضايا بالكلية؛ إلا أن جلّ اهتمامه مُنْصبٌّ على الأمراض العُضال التي ضربت أوصال النظام الإيراني. ففي كلمة ألقاها في أيلول سبتمبر من العام 2015 بحضور جَمْع من كبار ضباط الحرس الثوري، صرّح روحاني بكلام هو أشبه بالكفر البواح، فقال: “إن أعدى أعداء إيران ليست الولايات المتحدة أو إسرائيل، وإنما البطالة والتضخم وغلاء المعيشة ونقص المياه والفساد الذي ينخر كالسوس في جسد الدولة”. وتعقيبا على هذه التصريحات قال أحد قادة الحرس الثوري: “إن روحاني أخطر على إيران من تنظيم مجاهدي خلق الإرهابي”، وهو التنظيم الذي يُعدُّ سُبَّة في الخطاب الشعبي الإيراني؛ الأمر الذي يجسّد البعد التآمري لتصريحات روحاني.
بعبارة أخرى، يرى الإصلاحيون ومعهم روحاني أنه إذا أرادت إيران مجابهة التحديات التي تعترض طريقها، فعليها أن تنفتح على العالم الخارجي حتى تجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يعني أيضا أن تنتهج سياسة خارجية أكثر توافقية، ولو بشكل تكتيكي. إنهم يعتقدون أن الانفتاح على العالم يستلزم أيضًا إحداث إصلاحات اقتصادية داخل إيران من شأنها أن تؤثر في موازين القوى المحلية. وليس باستطاعتنا إغفال أن بعض الإصلاحيين ربما يرغبون في الدفع باتجاه انفتاح سياسي ملحوظ، لكن هذا الأمر لا يحظى بالأولوية ذاتها إذا ما قورن برغبتهم في إحداث الانفتاح الاقتصادي. إنهم يدركون أيضا محدودية قدرتهم على الدفع باتجاه التحرر والليبرالية؛ نظرا للحساسية المفرطة للمرشد الأعلى تجاه هذه المسألة، وهو الأمر الذي أدى فعليًّا إلى شلّ حركة خاتمي والحدّ من صلاحياته خلال عُهدته الرئاسية الثانية التي امتدت من عام 2001 إلى 2005.
ما الذي يخشاه المحافظون؟

يعتقد خامنئي والمحافظون من ورائِه أن الخطر الحقيقي الـمُحدق بإيران يأتي من طرفين: أحدهما خارجي ويتمثل في الغرب والولايات المتحدة على رأسه، والآخر داخلي ويتجسد في تراجُع الوازع الديني والثوري في المجتمع الإيراني لا سيما بين الشباب. إن خُطَب خامنئي وتصريحاته منذ توليه منصب المرشد الأعلى تعجّ بالتحذير من “المؤامرات” التي يحيكها “العدو” – الغرب على وجه الخصوص – ضد إيران. ومع ذلك، فهو لا يخشى من حدوث غزو عسكري أمريكي ضد بلاده، بل أخشى ما يخشاه هو ذاك الذي يصفه بـ “الحرب الناعمة” و”الغزو الثقافي” اللذين يشنهما الغرب ضد إيران من أجل تقويض الجمهورية الإسلامية من داخلها. إن هذا النوع من الغزو بالغ الخطورة بسبب ما تنطوي عليه الثقافة الغربية من جاذبية وفتنة، ولأنها تفسد الروح، وإفساد الروح عند رجال الدين أضر وأخطر من إفساد البدن. لذلك فإن المحافظين عازمون على إبقاء الوضع السياسي والثقافي الراهن في إيران على حاله؛ لأنهم يوقنون بأن أي انفتاح خارجي أو داخلي سيهدد بقاء النظام. إنهم حين يفعلون ذلك، تتراءى أمام أعينهم الإجراءات التي اتخذها ميخائيل جورباتشوڨ بدعوى إصلاح هياكل الاتحاد السوڨييتي فأفضت إلى تفككه وانهياره.
إن الحرس الثوري وقوات الباسيݘ يسعيان إلى الحفاظ على الإمبراطوريات الاقتصادية التي أقاماها خلال العقدين الماضيين. وتقوم تلك الإمبراطوريات، التي تسيطر على قطاعات مهمة من الاقتصاد الإيراني، بتوظيف ملايين الإيرانيين بشكل مباشر وغير مباشر؛ بما يعني أنها أداة سياسية بالغة القوة والنفوذ. ويخشى قادة الحرس الثوري وقوات الباسيݘ من أن يفضي الانفتاح الاقتصادي على الخارج إلى الإضرار بمصالحهم الاقتصادية؛ لأنهم أسسوا منظومة متكاملة من الاقتصاد الأسود بغرض التحايل على العقوبات المفروضة على إيران. أضف إلى ذلك أنهم يخشون – في حال حدوث انفتاح اقتصادي – أن تواجه المصانع والشركات التي بحوزتهم صعوبة في منافسة الشركات الأجنبية، أو أن تُضطرّ مصانعهم وشركاتهم إلى التقيُّد والالتزام بالقواعد والمعايير الإدارية السليمة، ما سيفضي إلى تقليص المكاسب السياسية المتحققة منها.

موقف الإصلاحيين والمحافظين
من الاتفاق النووي

يرى الإصلاحيون أن الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في تموز يوليو من العام 2015 كان شرطًا مُلِحًّا وحتميًّا لإعادة ترميم الاقتصاد الإيراني؛ إذ كان من شأنه أن يُغرق البلاد في استثمارات أجنبية ضخمة، في قطاع النفط أولا ثم في قطاعات الصناعة والبنية التحتية. وهذا ما حدث فعلا في السنة الأولى التي أعقبت توقيع الاتفاقية، حيث هبط على إيران مئات من أباطرة رجال الأعمال من جميع أنحاء العالم ووقعوا عقودا استثمارية مبدئية، إلا أن معظم تلك العقود لم تُنفَّذ بعد ذلك بسبب جُملة من العقبات التي سنفصل القول فيها لاحقًا. على الجانب الآخر ينظر المحافظون إلى تلك الاستثمارات باعتبارها تهديدًا وجوديا للنظام؛ متخوّفين من أن تجر على البلاد آثارًا ثقافية “سلبية” من الغرب. لذلك اقترح خامنئي فكرةً بديلةً أسماها “اقتصاد المقاومة”، قاصدا بها أن يلبي الاقتصاد الوطني احتياجاته الخاصة ولا يرتهن للاستيراد الخارجي ويسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي. كل ذلك يعني أن المحافظين مستعدون لدفع ثمن اقتصادي باهظ، شريطة أن تظلَّ إيران على نقائها الثوري. وإن شئت عبارةً أكثرَ هزليّة فقل إن المحافظين على استعداد لإحباط الإصلاحات الاقتصادية الضرورية والـمُلِحَّة طالما ظلت مصالحهم السياسية مصونة.
وقد حاول روحاني التخفيف من قبضة الحرس الثوري على الاقتصاد الإيراني، بل حاول إقناعهم بقبول رؤيته حول الاستثمار الأجنبي. كما طرح روحاني على قادة الحرس الثوري أن يحصلوا على نسبة كبيرة من العقود التي سيتم توقيعها مع الشركات الأجنبية، وأن يستفيدوا من الازدهار الاقتصادي المرتقب إذا ما قبلوا التغيير. لكنه في الوقت نفسه حذر من أن البديل عن الاتفاق النووي هو الانزلاق إلى أتون حرب مع الولايات المتحدة. ولكن يبدو – حتى تاريخ كتابة هذا المقال – أن قادة الحرس الثوري يفضلون الوضع الراهن على المخاطر الاقتصادية والسياسية التي ينطوي عليها الانفتاح على العالم

صراع المحافظين مع الرئيس روحاني

خلال الفترة الأخيرة دَأَبَ الحرس الثوري الإيراني ووسائل الإعلام الدائرة في فَلكه على استعمال مصطلح “نفوذي” التي تعني “عملاء نفوذ أجنبي متخفِّين” عقدوا العزم على تغيير العقيدة الثورية للنظام، قاصدين به روحاني وأنصاره. بل إن قائد الحرس الثوري الݘنرال محمد علي جعفري قد صرَّح علنًا عن شكوكٍ تساوره حيال مدى إخلاص روحاني للجمهورية الإسلامية. ولم يكتفِ الحرس الثوري بهذه التصريحات؛ بل قام بعدد من الخطوات الاستفزازية بُغية تقويض محاولات روحاني للتوصل إلى تسوية مع الغرب، من ذلك أنه اعتقل بعض الإيرانيين من ذَوِي الجنسيات المزدوجة، وأجرى مناورات عسكرية في أشدّ مراحل التفاوض مع الغرب حساسيةً دبلوماسيةً، وتحرّش بسفن الأسطول الأمريكي في الخليج العربي، وسرّب معلومات مخجلة عن بعض بنود الاتفاق النووي عزّزت موقف معارضي الاتفاق من داخل الولايات المتحدة.
أما خامنئي، الذي لم يتخلَّ يومًا عن موقفه المعادي للغرب والمتشكك في نواياه، فلا ينفك عن النفخ في نار الخصومة بين الحرس الثوري وروحاني؛ لأن هذا يساعده في الحفاظ على مكانته كصاحب الكلمة الفصل في منظومة الحكم الإيرانية. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا أيضا أنه كان دائم التخوُّف والاحتراس من الرؤساء الأقوياء مخافَةَ إفراطهم في اتخاذ إجراءات مستقلة بمعزل عن مشورته. وعلى ذلك يمكننا بكثير من الثقة أن نقول إن خامنئي كان يؤيد الخطوات الاستفزازية التي اتخدها الحرس الثوري حتى “يُحجِّم روحاني”.
وقد تجلَّى أحد أبرز مظاهر الخلاف بين الإصلاحيين الذين يعطون الأولوية للتنمية الاقتصادية وبين المحافظين الذين يؤثرون منهج الانغلاق الأيديولوݘي، في ردود الأفعال العاصفة التي أحدثتها كلمة الرئيس السابق هاشمي رفسنݘاني أمام مؤتمر لتطوير التعليم عُقد في آب أغسطس من العام 2016. وخلال كلمته أشاد رفسنݘاني – الذي توفي بعد ذلك المؤتمر بأشهر قلائل وتحديدًا في كانون الثاني يناير 2017 – بألمانيا واليابان اللتين نجحتا في إعادة بناء اقتصادهما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الاستثمار في تطوير الابتكارات العلمية وليس في الجيش والصناعات العسكرية. ثم أعرب رفسنݘاني عن أمله في أن يسير الرئيس روحاني بإيران في الطريق ذاته.
تعليقًا على ذلك، قامت وسائل الإعلام المحسوبة على التيار المحافظ باتهام رفسنݘاني بأنه يريد إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية، لا بل يريد إنهاءها بالكامل. كما زعم الإعلام المحافظ أن تصريحات رفسنݘاني تمثل دعوة صريحة لأعداء إيران إلى مهاجمتها، وأكد أن ما ينادي به الرجل كفيل بأن يفقد إيران استقلالها وتعود تابعة لأمريكا. ولم يفُت خامنئي أن يدلي بدلوه في الأزمة، ففي كلمة وجهها لضباط الحرس الثوري في أيلول سبتمبر 2016 قام بمهاجمة رفسنݘاني، واتهمه بالطعن في مبادئ الثورة، والرغبة في إهدار منجزاتها، وإعادة إيران إلى حظيرة النظام العالمي الغربي من جديد، والترويج لطُرُز الحياة الغربية، كل ذلك بدعوى ضرورة إنهاء عزلة إيران السياسية ودمجها في المجتمع الدولي.
إن التأثير الإيجابي للاتفاق النووي – وهو الإنجاز الأهم لروحاني على صعيد السياسة الخارجية، الذي كان يفترض أن يكون الرافعة التي تنهض باقتصاد البلاد – لم يزل محدودا إلى الآن. فبفضل الاتفاق النووي الذي أتْبعه رفْع جانب كبير من العقوبات التي فُرضت على إيران، طرأ تحسُّن ملحوظ على اقتصاد البلاد، لا سيما في قطاع صادرات النفط التي تضاعفت، لكنه مع ذلك يظل أقل كثيرا مما كان يأمله الإيرانيون. فقد أحجم المستثمرون الأجانب عن تنفيذ المشاريع الاستثمارية التي سبق أن وقعوا عليها، حتى قبل أن يتسلم دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض. ويُعزَى هذا الإحجام إلى بقاء بعض القيود الدولية على المنظومة المصرفية الإيرانية، وكذا إلى المشكلات الهيكلية العميقة في بنية الاقتصاد الإيراني، كالبيروقراطية المفرطة والفساد والتسيـيس.

المحاولة التي باءت بالفشل:
الإصلاح المصرفي

يعد الإصلاح المصرفي مثالا جيدا لتجسيد العلاقة بين الصراعات السياسية وبين الاقتصاد والسياسة الخارجية في إيران. فالبنوك الإيرانية تعاني جُملةً من المشكلات البنيوية الخطيرة، غير أن مشكلة المشكلات كانت انفصالها عن منظومة المقاصة الدولية والاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)؛ نظرا للعقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على إيران بسبب برنامجها النووي. أضف إلى ذلك أن البنوك الإيرانية تعاني من فشل الإدارة الذي يمكن عزوه إلى أسباب عديدة، يأتي في مقدمتها ارتهان القرارات الاقتصادية للاعتبارات السياسية. وهو ما تجلّى تحديدًا في منح قروض “سامة” لمشاريع شعبوية لا تملك أدنى احتمال للنجاح ومن ثَم تسديد القروض. فكانت النتيجة – وفقًا لتقرير البنك المركزي الإيراني – أن تجاوز إجمالي الدين الحكومي للبنوك حاجز 33 مليار دولار. وأغلب الظن أن هذا الدين لن يتم سداده أبدًا، بما يعني أن رأس المال الحقيقي للبنوك أقل كثيرا مما هو مُعلن، وأن بعض تلك البنوك قد يكون يعاني من نسب عجز كبيرة. فعلى سبيل المثال شهد يوم الـ 24 من كانون الثاني يناير 2017 انخفاض قيمة أسهم بنك مِلَّت الإيراني بنسبة 37.5٪ بعد أن اضطُرّ إلى تعديل نظامه في الحسابات والإبلاغ وفقًا لمعايير النظام العالمي، فكان هذا التعديل كفيلا بأن يكشف عن ضخامة العجز الذي يعاني منه رأس مال البنك.
وكان أحد متطلبات إعادة دمج البنوك الإيرانية في المنظومة المالية الدولية هو قبول شروط مجموعة العمل المالي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (FATF)، وهي هيئة دولية تأسست عام 1989 لمنع البنوك من غسل أموال المنظمات الإجرامية والإرهابية. وكانت إيران مُدرجة على القائمة السوداء لمجموعة (FATF) منذ عام 2008، ولكن بعد توقيع الاتفاق النووي توصل روحاني أيضا إلى اتفاق مع هذه المجموعة يقضي بأن تلتزم إيران بالمعايير التي تعتمدها المجموعة. وفي نيسان أبريل عام 2016 أصدر البرلمان قانونًا يحظر تمويل المنظمات الإرهابية وغسل الأموال. في المقابل تمت إعادة ربط إيران بمنظومة (SWIFT)، وأعلن تقريرٌ لمجموعة (FATF) عن تجميد جميع العقوبات المفروضة على إيران لمدة 12 شهرا اعتبارا من حزيران يونيو 2016، لكن التقرير دعا في الوقت نفسه حكومات دول العالم إلى تحذير بنوكها من مخاطر التعامل المالي مع إيران لأنها لا تزال تدعم منظمتي حماس وحزب الله المدرجتين على قائمة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة وأوروبا، بما يعني أنه إذا لم تُغيِّر إيران سلوكها في هذه الملفات، فإنه سيتم استئناف العقوبات المفروضة على بنوكها. وعندما تحوم مثل هذه الشبهة حول البنوك الإيرانية، فليس مستغربا أن تتردد البنوك الدولية في التعامل معها.
استغل المحافظون استعداد روحاني قبول شروط مجموعة (FATF) للنيل منه واتهامه بالخيانة، وحذروا من أن تطبيق معايير تلك المجموعة سيُرغم إيران على التفريط في سيادتها. كما زعم المحافظون أن تلك المعايير تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهددوا برفع الأمر إلى المحكمة العليا الإيرانية والمجلس الأعلى للأمن القومي والنائب العام والبرلمان؛ لمنع روحاني من الرضوخ لمطالب مجموعة (FATF). كما رفضوا ما ينطوي عليه مجرد التوقيع على اتفاقية (FATF) بأن المصارف الإيرانية قامت بعمليات غسل أموال لصالح منظمات إرهابية وقدمت لها مساعدات مالية.
انضم الإعلام المحافظ إلى حملة الهجوم على الاتفاقية المبرمة مع مجموعة (FATF)، حيث قالت صحيفة جوان إن أحد أهداف (FATF) هو إضعاف إيران، والنيل من الحرس الثوري وحزب الله والجهاد الإسلامي. كما ادعت الصحيفة أن مجرد التوقيع على هذه الاتفاقيات يعني موافقة إيران ضمنًا على زعْم الغرب بأن الحرس الثوري وحزب الله منظمتان إرهابيتان، مع أنهما في الحقيقة – بحسب الصحيفة – حركتا تحرُّر. وردًّا على هذه الادعاءات، قال روحاني إنه لا خيار أمام إيران سوى القبول بشروط (FATF).
إن أكثر ما أزعج المحافظين أنهم أدركوا أن قبول شروط (FATF) يعني الإضرار بالإمبراطورية الاقتصادية للحرس الثوري، وأنه سيضطرهم إلى أمور عديدة على رأسها البحث عن وسائل بديلة لنقل الأموال إلى المنظمات الإرهابية خارج إيران.
وقد حقق روحاني في أيلول سبتمبر 2016 نصرًا جزئيًّا عندما أعلن مصرفان كبيران – هما “سِبَه” وملِّي” – أنهما سيتوقفان عن التعامل مع شركة “خاتم الأنبياء” – وهي كبرى الشركات القابضة للحرس الثوري – حتى لا تُطبَّق عليهما العقوبات الدولية. أما خامنئي فأمسك كعادته العصا من المنتصف؛ حيث أعلن مستشاره للسياسة الخارجية علي ولايتي أن إيران ليست بحاجة إلى التوقيع على تلك الالتزامات، فعزز بذلك الانطباع الذي يريد خامنئي أن يلصقه بنفسه، وهو أنه الزعيم الذي يتمسك بالنقاء الثوري. لكن خامنئي نفسه لم يخرج بأي تصريح مُعلن بشأن هذه المسألة؛ فسمح بالتالي لروحاني أن يواصل جهوده من أجل توقيع الاتفاقية.
إن الجدل حول اتفاقية مجموعة (FATF) يكشف في الواقع عن سؤال أكثر عمقا ودقة، وهو: هل إيران مستعدة لقبول قواعد اللعبة في النظام الدولي؟ بمعنى آخر: هل هي مُهَيّأة لإجراء عملية تطبيع كما يرغب الإصلاحيون؟ أم ستواصل التمسك بالرؤية الثورية كما يريد المحافظون الذين يعتبرون قواعد اللعبة الدولية – بما فيها القانون الدولي – تجليًّا لموازين القوى الدولية المختلة التي تكفل للهيمنة الغربية الغلبة والبقاء؟ إننا نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن مدى استعداد إيران لتنفيذ تلك التغييرات في القطاع الاقتصادي في السنوات القادمة يصلح أن يكون مؤشرًّا دالًّا على مدى جاهزيتها للانخراط في النظام الدولي بشكل بنّاء.

استفزاز أعداء الخارج لإحراج
أعداء الداخل

في إطار صراعهم مع روحاني، عمل المحافظون على إفشال سياسته التصالحية حيال جارات إيران. وما من شك أنهم فعلوا ذلك من منطلق عدائهم له، ولكنهم فعلوا ذلك أولًا وقبل كل شيء من منطلق قناعة قادة الحرس الثوري بأن النهج التصادمي العدائي تجاه المحيط الخارجي يعزز موقفهم السياسي في الداخل الإيراني.
فعلى سبيل المثال، سعى روحاني إلى تخفيف حدة العداء بين إيران وبين المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليجبل إن هناك تقارير تشير إلى رغبة روحاني في خفض التدخل العسكري الإيراني في سوريا؛ بسبب ما يُلقيه من أعباء هائلة على كاهل الاقتصاد الإيراني. على الجانب الآخر، ما انفكّ المحافظون يصدرون تصريحات استفزازية ضد خصوم إيران؛ لأغراض عديدة يأتي في مقدمتها إحراج روحاني وإظهاره كرجل ضعيف الشخصية أمام أعداء إيران. مِن هذه التصريحات الاستفزازية ما تبجَّح به النائب المحافظ في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، قبل عامين قائلا: “إن ثورة الحوثيين في اليمن جعلت من صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي تخضع لإيران”. كما صرح الݘنرال يحيى رحيم صفوي، الرئيس السابق للحرس الثوري، في أيار مايو عام 2014، قائلا: “إن الحدود الحقيقية لإيران ليست كما هي عليها الآن، بل تنتهي عند ساحل البحر الأبيض المتوسط على الجنوب اللبناني”. كذلك قال حسين سلامي، العميد في الحرس الثوري: “لقد حاربت إيران في الماضي عدوًا لها عند حدودها التي كانت آنذاك على ضفاف نهر الكرخة في محافظة خوزستان، لكن وبينما هي تحارب عدوها قامت بتوسيع حدودها الاستراتيجية وصولا إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط وشمال أفريقيا”.([17]) إن تلك التصريحات كفيلة بأن تكشف لنا عن حجم الاستعلاء والطموحات الإقليمية المفرطة، كما أنها تعكس في الوقت نفسه حالة الجدل الداخلي، وترُدّ على من يعتقدون أن دعم الأسد بات عبئًا باهظ الكُلفة.
وكانت العلاقات مع المملكة العربية السعودية أيضا مادة دسمة للمحافظين من أجل مكايدة روحاني والتشنيع عليه. ففضلا عن الخصومة الاستراتيݘية والدينية بين السعودية وإيران، اتخذت العلاقات بين البلدين في العامين الأخيرين منحدرًا زَلقًا بلغ حد القطيعة بسبب تراكم العديد من الأحداث، كان أبرزها إعدام رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر في الرياض في 2 كانون الثاني يناير 2016. وقد استدعت هذه الحادثة ردود فعل شديدة اللهجة في إيران؛ حيث توعّد خامنئي بأن حادثة الإعدام ستكون لها عواقب وخيمة، وأن السعوديين سيذوقون مرارة الانتقام الإلهي. وعلى الرغم من حِدَّة لهجة تصريح روحاني، إلا أن تفويضه العقاب إلى الله يهدف إلى إحلال إيران من الالتزام الأخلاقي بالثأر لدم الشيخ النمر.
وقد كان لواقعة الإعدام أيضا ردود فعل شعبية في إيران؛ فقد أقدم بعض العوام على إحراق مباني السفارة السعودية في العاصمة طهران ومكاتب القنصلية السعودية في مدينة مشهد؛ فقامت الرياض وبعض العواصم الخليجية في المقابل بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران. وهناك مؤشرات عديدة على أن هذا “الغضب الشعبي العفوي” نظمته جهاتٌ محافِظة أرادت إحراج روحاني، غير أن هذا الأمر لم يُثنِ الإعلام المحافظ عن مهاجمته بحجة أن سياسته المائعة هي التي شجعت السعودية على انتهاج سياسة صارمة وعدائية أدت في النهاية إلى تأجيج غضب الشارع الإيراني عن حق. وزعم الإعلام المحافظ أيضا أنه لو كان روحاني قد تبنى سياسة أكثر حزما تجاه السعوديين، لما كان هذا الحدث المؤسف قد وقع. بمعنى آخر، يرى المحافظون أن روحاني يتحمل مسؤولية هياج معارضيه.
وقد وقع أمر مشابه قُبيل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فعلى غرار بعض الجهات في إسرائيل، كان المحافظون في إيران يفضلون دونالد ترامب على هيلاري كلينتون لاعتقادهم أن نهجه التصادمي سيقضي على أي احتمال لحدوث انفراجة في العلاقات مع الولايات المتحدة، وسيحُول دون تسلل الغزو الثقافي الأمريكي “المدمر” إلى إيران؛ الأمر الذي سيفت في عضد المعسكر الإصلاحي الذي أراد تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وكان المحافظون يُـمنّون أنفسهم أيضا بأن تعزل الولايات المتحدة نفسها أمام العالم كله؛ فقد كانت الكلفة الاقتصادية لا تعنيهم بقدر المكاسب السياسية.
لقد حقق ترامب بعض الآمال التي علقها عليه المحافظون في إيران من خلال إصداره أمرًا بحظر دخول المواطنين الإيرانيين إلى الولايات المتحدة. كما تلقى المحافظون زخمًا آخر من تصريح لمستشار الأمن القومي الأمريكي مايكل فلين في شباط فبراير 2017، قال فيه إننا وجّهنا “إنذارًا” إلى إيران عقب تجربتها إطلاق صاروخ باليستي. فقام خامنئي ردًا على ذلك بمهاجمة الولايات المتحدة قائلا إنها أسْفَرَتْ عن وجهها الحقيقي، وها قد ثبت من جديد أنه لا يمكن الوثوق بالأمريكان أو التنازل لهم؛ لأنهم لم يتنازلوا عن موقفهم العدائي تجاه إيران والإسلام، كما انتقد روحاني على سذاجته التي جعلته يثق بهم ويتوافق معهم.
لقد كان الحرس الثوري يهدف من وراء التجارب الصاروخية التي أجراها في عام 2017 إلى إبداء موقف إيراني حازم وحادّ تجاه ترامب، وإلى تحديد خطوط إيران الحمراء له، بما يعني أن الاتفاق النووي لن يؤثر على مسيرة تطوير الصواريخ. لكن تلك التجارب كان لها غرض آخر؛ فقد أقدم الحرس الثوري – بموافقة خامنئي – على تلك الخطوة من أجل حشر روحاني في الزاوية وإجباره إما على الاصطدام بالولايات المتحدة أو تلقي سهام النقد من خامنئي. ويُعدّ المحافظون خير من يجيد فنّ الاستفزاز، فلا ننسى واقعة اعتقال “الجواسيس” اليهود الـ 13 عام 1999، التي كان الهدف منها إيقاع الرئيس الإيراني حينها محمد خاتمي في ورطة مماثلة.
لقد تباكى بعض متحدثي التيار المحافظ وتفجّعوا على أن ايران دفعت ثمنا باهظا بسبب الثقة المفرطة التي أولاها روحاني للأمريكان، ولأنه لم يلتزم بالخطوط الحمراء التي حددها المرشد الأعلى في الملف النووي، وأسرف في تقديم التنازلات في الاتفاق النووي.([18]) فعلى سبيل المثال قالت صحيفة وطن امروز المحسوبة على المحافظين في افتتاحيتها ليوم 4 شباط فبراير 2017 إن مجرد دخول ترامب إلى البيت الأبيض لهو ضربة للمعسكر الذي آمن بإمكانية إنشاء علاقات مع الغرب. وأضافت الصحيفة أن الإصلاحيين لا يمكن أن يفوزوا بالانتخابات الرئاسية المقبلة عبر اختلاق تعارُض وهمي بين السلام والصراع، وكذا بين تحسُّن الوضع الاقتصادي وتوطيد دعائم اقتصاد المقاومة.([19]) ولكن تجدر الإشارة مع ذلك إلى أنه رغم انتقادات المحافظين، إلا أنهم يقولون – بمن فيهم خامنئي – إنه ما من حاجة لأخذ تصريحات ترامب على محمل الجد أكثر مما ينبغي، وإنه ما من احتمال أن تُقدِم الولايات المتحدة على مهاجمة إيران.
أما الرجل المتشدد حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة “كيهان”، فانتقد ترامب للسبب المعاكس؛ وذلك لعدم إيفائه بوعده الانتخابي بإلغاء الاتفاق النووي. وزعم شريعتمداري أن وثيقة الاتفاق تُعدّ “وثيقة ذهبية” للولايات المتحدة، بينما لا تمثل لإيران سوى الخسارة والمهانة. وأضاف شريعتمداري أن ترامب، ولسوء الحظ، قد عاد إلى رشده وأدرك أن أصدقاءه في البيت الأبيض قد تحايلوا على إيران وخدعوها بهذه الاتفاقية، ولذلك فهو يريد الإبقاء عليها الآن.([20]) من خلال هذه التصريحات يتضح جليًّا من يتحمل مسؤولية توقيع اتفاقية بالغة السوء كهذه بالنسبة إيران.

الانتخابات الرئاسية: انتصار
محدود للإصلاحيين

كشفت الانتخابات الرئاسية التي جرت في 19 أيار مايو 2017 عن العلاقة الوشيجة بين السياستين الداخلية والخارجية. فقبيل الانتخابات ألقى روحاني الضوء على الانعكاسات الإيجابية للاتفاق النووي على الاقتصاد الإيراني؛ من خلال رفع معظم العقوبات المفروضة على إيران، وإزاحة شبح الحرب عن سماء طهران. كما تعهد روحاني بالعمل على رفع بقية العقوبات التي لم تزل قائمة. وكلما كان موعد الانتخابات يقترب، كان روحاني يرفع من وتيرة انتقاداته للمحافظين، وكان يستشهد بأقوال الخميني – مؤسس الجمهورية الإسلامية – الداعية إلى عدم تدخل الحرس الثوري في الشئون السياسية، وكان يتحدث عن هيمنتهم على الكثير من وسائل الإعلام.([21])
وقد شهدت الانتخابات دخول مرشح محافظ أمام الرئيس روحاني، هو آية الله إبراهيم رئيسي سَادِن العتبة الرضوية المقدسة التي تُعدّ الوقف الإسلامي الأكثر ثراءً في إيران بل ربما في العالم الإسلامي بأسره. وادعى رئيسي أن روحاني فشلَ في التعامل مع الأزمات الاقتصادية الحادة التي تعاني منها البلاد، وأن هذا الفشل فضح أكاذيبه بأن الاتفاق النووي سيحقق مكاسب اقتصادية لإيران. وزعم رئيسي أن الحل يكمن في تسخير السياسة الخارجية لمصلحة رؤية اقتصاد المقاومة، لكنه في الوقت نفسه أطلق وعودًا شعبوية بتوزيع مبالغ طائلة من الأموال الحكومية دون أن يوضح الوسيلة التي سيوفر بها تلك المبالغ الهائلة اللازمة لتمويل وعوده.([22]) أما خامنئي، الذي وقف على الحياد ظاهريا، فأعرب عن تأييده لرئيسي بشكل غير مباشر عندما أعلن رفضه لتصريحات روحاني بأن الاتفاق النووي أبعد عن إيران أي تهديد عسكري، وقال إن صلابة الشعب الإيراني وإصراره هو ما أبعد شبح الحرب.([23])
إن الفوز الـمُقـنِع لروحاني بحصوله على نسبة 57٪ من الأصوات يعكس رغبة غالبية الإيرانيين في مزيد من الانفتاح الاقتصادي والثقافي على العالم، كما يعكس دعمهم لسياسة خارجية أكثر اعتدالًا تتيح تحقيق هذا الانفتاح. في الوقت نفسه، يكشف الإنجاز النسبي الذي حققه رئيسي عن ظاهرتين: الأولى تتمثل في استمرار وجود كتلة صلبة من أنصار النظام تُقدر بحوالي 30٪ من السكان بالنظر إلى نتائج جميع المنافسات الانتخابية الأخيرة. أما الظاهر الثانية فتـتجسد في جاذبية الوعود الشعبوية التي أطلقها رئيسي، لا سيما بين الطبقات الفقيرة التي لم تَذُق بَعدُ ثمار الانفتاح الخارجي.
وعلى الرغم من فشلهم، صرح المحافظون أنهم لن يسمحوا لروحاني بالمضي قدما في سياساته. فقد انتقد شريعتمداري ما وصفها بسياسة روحاني “الانبطاحية” تجاه الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العربية، وزعم أن هجوم روحاني على الحرس الثوري هو ما شجع ترامب ودول الخليج العربي على الخروج بجملة من التصريحات المعادية لإيران. وبحسب شريعتمداري، فإن تصريحات روحاني تُنبئ عن ضعفه وتنال من المبادئ الأساسية للنظام. بهذه التصريحات كشف شريعتمداري عن عمق التأثير المتبادل بين سياسة إيران الخارجية والداخلية.
للوهلة الأولى كان يبدو أن فوز روحاني له أثر محدود في سياسة إيران الخارجية؛ لأن المرشد الأعلى هو من يرسم هذه السياسات اعتمادًا على الموازنة والترجيح بين مختلف الاعتبارات والقيود الاستراتيݘية والأيديولوݘية والشخصية. ومع ذلك، لا يمكن إهدار قيمة فوز روحاني بالكلية؛ إذ يبدو أن النهج الذي يمثله الرجل، هو من بين القوى الفاعلة التي تحاول التأثير في صياغة السياسة الخارجية. كما يبدو أنه لن يكون سهلا على القيادة الإيرانية أن تتجاهل الرسالة الواضحة التي وجهها معظم الشعب الإيراني إليها، فإذا لم يُفْضِ الأمر بعد كل ذلك إلى تحوُّل جوهري في سياسة طهران الخارجية، فهذا يعني أن القيادة الإيرانية ليس لها ظهير شعبي يدعمها في تنفيذ سياسة خارجية هوجاء أو متعقلة، ويمكن حينها أن نأمل – لا بل نتوقع – أن يؤدي ذلك إلى كبح جماح إيران.


الكاتب : وكالات

  

بتاريخ : 25/02/2019