وثيقة تاريخية مثيرة عن حرب سرية طواها النسيان .. كيف كانت تطوان محور عمليات تهريب الفارين من التجنيد في اللفيف الأجنبي إبان حرب الجزائر

في صيف 1958 وفي سياق خروج السلطة الدوغولية من مرحلة الفراغ بفضل انقلاب 13 ماي بالجزائر. لم تكن فرنسا تنوي التخلي عن أي أسلوب بما فيها الأساليب غير المشروعة لمواصلة حربها التي ستسمر أربعة سنوات. وإذا كانت بعض القوى الفرنسية تلجأ إلى التعذيب فوق التراب الجزائري. كانت آخر حكومة في الجمهورية الرابعة برئاسة الجنرال دوغول. تأمر بتنفيذ عمليات سرية في باقي العالم ضد من يهددون مصالحها في الجزائر. تصفيات واغتيالات محددة. تحذيرات في شكل اعتداءات. هذه الممارسات كانت أسلوبا شائعا. كانت »بالمئات« كما سيعترف كونستانتين ميلنيك، منسق مصالح المخابرات في الفترة من 1959 إلى 1962.
كانت الدولة الفرنسية تعتبر أنها تعمل في إطار الشرعية حتى وإن كانت تتحرك بشكل يخرق القانون الدولي أو المحلي. فالدولة الفرنسية سواء في سنة 1958 أو في سنة 2015، في عهد الرئيس فرانسوا هولاند. حافظت لنفسها بهذه الحرية، محددة بذلك حدود مراقبة استعمال القوة حتى في أكبر الديمقراطيات، وقد أكد ذلك هولاند شفهيا. في نهاية 2016 في عدة مؤلفات. كاشفا بذلك عن أحد الطابوهات. لكن لم يوجد أدنى أثر مكتوب عن تلك القرارات. على الأقل حتى اكتشاف وثيقة فريدة في ملفات أرشيف جاك فوكار رجل المخابرات السرية. والعمليات القذرة للعهد الديغولي. والمعروف أيضا كأب فرنسا الإفريقية.
هذه الوثيقة المؤرخة في 1 غشت 1958 ومذيلة بملاحظات بخط يد فوكار، تعطي ليس فقط تفاصيل إدانة شخص بالإعدام “شخص ألماني (..) كان نشاطه مضرا بالمصالح الفرنسية في الجزائر”«، بل تعطي كذلك تفاصيل هوية الهدف وكل من ساهم في إعطاء الضوء الأخضر لتصفيته الجسدية. وأخيرا تعطي قراءة هذه الوثيقة معرفة عن مسلسل الترخيصات التي تتدخل فيها أعلى السلطات في البلد، وتطرح، حتى بعد مرور 60 سنة. قضية مسؤولية الدولة.
وقد حاولت جريدة “لوموند” إعادة جمع معطيات قصة هذا الرجل والأسباب التي قادت فرنسا إلى الرغبة في قتله. هذا الغوص في التاريخ يسمح باكتشاف حقبة غير معروفة من حرب الجزائر: نشاط شبكة ألمانية لدعم جبهة التحرير الوطني الجزائرية (fln) قامت بتنظيم فرار أزيد من 4000 من أفراد اللفيف الأجنبي (جنود البلدان المستعمرة الذين جندتهم فرنسا) عبر تطوان بالمغرب. وتكشف هذه الوثيقة أيضا عن الحرب السرية التي كانت قائمة بين فرنسا وألمانيا على خلفية نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، بينما في الظاهر كان البلدان يوحدان أصواتهما من أجل بناء أوروبا سلمية بعد حربين عالميتين مدمرتين.
الوثيقة بعنوان “»ورقة متعلقة بتحديد هدف« “موجهة مباشرة إلى قسم تنفيذ العمليات بمصلحة المستندات الخارجية والتجسس( SDECE) وبالضبط إلى جاك فوكار الذي كان يشغل منصب مستشار تقني لدى الجنرال دوغول بماتينيون مقرر رئاسة الحكومة- كان دوغول وقتها رئيسا للمجلس طيلة 6 أشهر قبل أن يدخل فرنسا في عهد الجمهورية الخامسة ويستقر بقصر الاليزيه (مقر رئاسة الجمهورية)- الوثيقة تقول »”شولز لوزوم مواطن ألماني مقيم بتطوان، هو رئيس منظمة لتنظيم فرار جنود اللفيف الأجنبي الفرنسي وبعد مهمة استطلاع تمت إقامة اتصال تجاري مع شولز لوزوم. هذا الاتصال الذي تم بالمراسلة سيمكننا من استدراج الهدف إلى مكان ملائم في المغرب. ومعالجته بشكل سري عبر تسمم يصعب كشفه وله مفعول بعدي”.
جاك فوكار كتب في البداية تلقيت (المعلومة) يوم 3 غشت 1958 وأعطيت الموافقة المبدئية وفي مرحلة ثانية، وبنفس المداد الأزرق سيضيف جاك فوكار” موافقة الاميرال كابايني يوم 4 غشت أرسل على الفور إلى الكولونيل روسيليا قبل أن يضع توقيعه، الذي يمكن التحقق منه من خلال العديد من الوثائق الرسمية الأخرى”. والملاحظ أن وزير الدفاع لا يظهر في سلسلة مسار اتخاذ القرار. الوثيقة تشير كذلك إلى أن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش بول ايلي هو من طلب هاته التصفية من مصلحة المستندات ومكافحة التجسس والاميرال كابانيي ليس سوى رئيس هيئة الاركان العامة للدفاع الوطني الملحق بالجنرال دوغول برئاسة المجلس. والكولونيل روبير روسيا هو رئيس قسم العمليات بمصلحة المستندات ومكافحة التجسس مكلف بتنفيذ هذا القرار.
وحسب المؤرخ النمساوي فريتز كيك وهو أحد القلائل الذي يكرر اسم شولز في أبحاثه حول شبكات مساعدة جبهة التحرير الوطني الجزائرية شولز واسمه الكامل ويلهلم شولز لوزوم، مزداد سنة 1896، وحسب المخابرات الفرنسية »كان وقتها مقيما في تطوان لسنوات عديدة وهو مهندس ومسؤول عن شركة للاستيراد والتصدير لكنه في الواقع كان يعمل لحساب سلطات ألمانيا الغربية. وكانت له اتصالات دائمة وعلاقات كثيرة مع الدبلوماسية الألمانية الغربية في المغرب وفي اسبانيا.
ودوره كان في صلب تقرير أرسله رئيس الاستعلامات العامة بوهران إلى الجنرال سلان قائد المنطقة العسكرية العاشرة. وذلك بتاريخ 31 أكتوبر 1957 هذا التحقيق الذي تعزز بمعلومات الاستعلامات العامة بسيدي بلعباس حيث يتواجد مقر قيادة اللفيف. هذا التقرير وجهت نسخة منه إلى رئيس مصلحة المستندات الخارجية ومكافحة التجسس، ويقول” »يظهر أن المكتب الذي تم تأسيسه من أجل تشجيع هروب جنود اللفيف الأجنبي الألمانيين. موجود فعلا. والمسؤول عنه هو شخص اسمه شولز لوزوم، غير معروف، مهندس مقيم بتطوان ممثل للسفارة الألمانية بمدريد. حاصل على عدة أوسمة شرفية من الجمهورية الفيدرالية في بون في سنة 1953 – 1954 كان اللفيف الأجنبي يضم %55 من الألمان، وهو الرقم الذي نزل إلى %35 مابين 1956 و 1962 وحسب المؤرخة ماتيلد فون بولو، مؤلفة كتاب حول ألمانيا الغربية في عهد الحرب الباردة وحرب الجزائر. كان حوالي ثلث هؤلاء الجنود لا يتعدى سنهم 21 سنة بل إن الكثير منهم لم يكن عمرهم أقل من 18 سنة.
في‮ ‬سنة‮ ‬1957،‮ ‬يؤكد الفرنسيون أن المسمى شولزلوزوم كان مكلفا باستقبال المجندين الفارين من جنود اللفيف الأجنبي‮ ‬بتطوان، وتوجيههم نحو مدريد عبر سبتة والجزيرة الخضراء‮. ‬ومن أجل ذلك كان‮ ‬يعطيهم تذاكر سفر وشهادات هوية مقابل التزام بتسديد مجموع مصاريف العودة إلى الوطن‮. ‬ويضيف تقرير الاستعلامات العامة الفرنسية بسيدي‮ ‬بلعباس‮ «‬يظهر أن اتصالات قد تمت بين جنود ألمان في‮ ‬اللفيف الأجنبي‮ ‬ومبعوثين عن جبهة التحرير الوطني‮ ‬بمدينة‮ «‬سعيدة‮» ‬الجزائرية،‮ ‬وهذه الاتصالات كانت تتم داخل‮ «‬مقهى الرياضات بالمدينة‮».‬
وكان المجلس الوطني‮ ‬للثورة الجزائرية قد أنشأ في‮ ‬أكتوبر‮ ‬1956‮ ‬مصلحة لإرجاع أفراد اللفيف الأجنبي‮ ‬الفارين،‮ ‬وعهد بالإشراف على هذه المصلحة المتواجدة بتطوان إلى عبد الحفيظ بوصوف الملقب‮ «‬ ‮ ‬سي مبروك‮»‬،‮ ‬الرئيس السابق للولاية الخامسة،‮ ‬والذي‮ ‬تعتبره المخابرات الخارجية الفرنسية‮ «‬ثوري‮ ‬له مكانة هائلة،‮ ‬قريب جدا من مقاتلي‮ ‬الميدان أكثر منه للجناح البورجوازي‮ ‬لجبهة التحرير الوطني‮».‬
وكان هدف جبهة‮ ‬التحرير الوطني‮ ‬هو تنظيم وتأطير ظاهرة الفارين المتزايدة في‮ ‬صفوف اللفيف الأجنبي،‮ ‬في‮ ‬23‮ ‬غشت‮ ‬1955‮ ‬كتب الجنرال لوريو‮ (‬le générale lorillot‮) ‬بسلف الجنرال سلان‮ (‬Salan‮) ‬في‮ ‬قيادة المنطقة العسكرية العاشرة،‮ ‬كتب إلى وزير الدفاع ليبلغه بـ‮ «‬الارتفاع الملموس لعمليات الفرار في‮ ‬وحدات اللفيف الأجنبي‮» ‬إلا أنه حاول أن‮ ‬يقلل من الظاهرة،‮ ‬بحيث اعتبر أن ذلك راجع حسب تأكيده‮ «‬لنهاية العمليات الفعلية في‮ ‬الهند الصينية‮» ‬وإلى‮ «‬ضعف أجور الجنود من شمال إفريقيا مقارنة بأجور الجنود في‮ ‬الشرق الأقصى‮» ‬و«وضعية نصف الراحة‮ (…) ‬الملائمة لعمليات الفرار‮» ‬لكنه‮ ‬يعتبر مع ذلك أنه من الضروري‮ «‬متابعة قضايا الأمن الداخلي‮ ‬عن قرب‮».‬
لكن مع ذلك بدأ القلق‮ ‬يتزايد بسرعة،‮ ‬يوم‮ ‬22‮ ‬أكتوبر‮ ‬1956،‮ ‬مكنت عملية اختطاف الطائرة التي‮ ‬كانت تقل خمسة من قادة الثورة الجزائرية وجبهة التحرير الوطني،‮ ‬مكنت من العثور مع أحدهم وهو محمد بوضياف على ‬نسخة من تحقيق أنجزته السلطات الإسبانية مع أحد الجنود الألمان الفارين‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر‮ ‬23‮ ‬سنة واسمه لودونغ‮ ‬تراب‮ (‬Ludwig trapp‮)‬،‮ ‬يمكن أن نقرأ فيه معلومات مهمة و قيمة حول التنظيم والأمن الداخلي‮ ‬للفيف الأجنبي،‮ ‬وأماكن تواجدها في‮ ‬الجزائر،‮ ‬ويوم‮ ‬14‮ ‬دجنبر‮ ‬1956‮ ‬أكد الوزير المقيم في‮ ‬الجزائر لكاتب الدولة في‮ ‬الشؤون الخارجية أن‮ «‬التدخلات الإسبانية في‮ ‬التمرد بشمال إفريقيا مؤكدة وملموسة‮».‬
وفي‮ ‬نفس‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬دجنبر‮ ‬1956‮ ‬سيلتحق الجندي‮ ‬الألماني‮ ‬من كتيبة المدفعية ما نفريد كوبر بإحدى وحدات مجاهدي‮ ‬جبهة التحرير الوطني‮ ‬رفقة‮ ‬20‮ ‬من رفاقه بأسلحتهم ومعداتهم،‮ ‬وقد تكفل بهم جنود الجبهة لمدة‮ ‬21‮ ‬يوما قبل أن‮ ‬يتم نقلهم نحو جنوب المغرب في‮ ‬المناطق التي‮ ‬كانت تحت الاستعمار الإسباني،‮ ‬وبواسطة الباخرة قاموا برحلة بين إفني‮ ‬وتطوان،‮ ‬ثم أوصلهم شولز لوزوم إلى طنجة ومنها إلى مدريد بواسطة الطائرة،‮ ‬كوبر استقبل من طرف القنصل الألماني‮ ‬في‮ ‬مدريد الذي سلمه حصة من المال وجواز سفر وتذكرة طائرة‮.‬
في‮ ‬برلين‮ ‬يستقبل كوبر من طرف واحد من ركائز شبكة الترحيل هاته،‮ ‬عضو في‮ «‬نادي‮ ‬شمال إفريقيا‮» ‬واسمه ليندمان‮ (‬Lindemann‮) ‬الذي‮ ‬طالبه بإرجاع مبلغ‮ ‬600‮ ‬مارك ألماني،‮ ‬ثم عودته إلى بلاده،‮ ‬وتحدثت أسبوعية‮ «‬جوردوفرانس‮» (‬Jour de france‮) ‬في‮ ‬يوليوز‮ ‬1957‮ ‬عن وجود هذه الشبكة الألمانية ببرلين‮. ‬شبكة‮ ‬يقودها هانز بيتر رولمان‮ (‬Hans-Peter Rullman‮)‬،‮ ‬الذي‮ ‬اعتنق الإسلام وعضو في‮ ‬حركة تعمل من أجل إعادة توحيد ألمانيا قريبة من حزب‮ «‬الاتحاد المسيحي‮ ‬الديمقراطي‮ (‬CDU‮) ‬بزعامة المستشار الألماني‮ ‬آنذاك أديناور‮ (‬Adenauer‮)‬،‮ ‬عمل على شراء وإمداد‮ «‬المقاومة الجزائرية‮» ‬بالسلاح،‮ ‬لكن نشاطه الأساسي‮ ‬ظل هو تنظيم فرار الجنود الألمان في‮ ‬اللفيف الأجنبي‮ ‬في‮ ‬شمال إفريقيا‮.‬
السيد ليندمان الذي‮ ‬يؤكد أنه نظم‮ ‬3200‮ ‬عملية فرار،‮ ‬يؤكد أيضا أنه أرسل مبعوثين،‮ ‬كانوا بمجرد دخولهم في‮ ‬صفوف وحدات اللفيف،‮ ‬يعملون على استقطاب وإقناع المجندين الشباب بالفرار،‮ ‬وقد تأسست عدة شبكات للتضامن في‮ ‬ألمانيا في‮ ‬أوساط الطلبة والأوساط الكاثوليكية والبروتستانية‮. ‬وفي‮ ‬أوساط الشيوعيين والتروتسكيين والنقابيين،‮ ‬وكان هانز يورغن فيشنيفسكي‮ (‬Hans-Jurgen Wischneuski‮) ‬النائب البرلماني‮ ‬عن الحزب الاشتراكي‮ ‬الديمقراطي‮ (‬SPD‮) ‬هو الوجه السياسي‮ ‬لحركة التضامن والمساندة هاته،‮ ‬المستشار أديناور الذي‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يريد إطلاق اليد للمعارضة،‮ ‬ترك المجال أمام هذه الحركة،‮ ‬اقتناعا منه بأن الجزائر ستكون مستقلة في‮ ‬يوم من الأيام‮. ‬وكلفت جبهة التحرير عبد القادر شنقريحة مهمة التنسيق بين أربعة ألوية خاصة مكلفة باجتياز الحدود المغربية‮. ‬وكانت هناك طريقان أساسيان لتهريب الفارين الألمان من اللفيف الأجنبي‮ ‬حتى الناظور،‮ ‬طريق نحو الجنوب ثم طريق نحو الغرب‮ ‬عبر طريق العريشة،‮ ‬برغنت،‮ ‬وجدة مشيا على الأقدام ثم من الناظور إلى تطوان بسيارة الأجرة‮. ‬ويوجد مكتب ثان في‮ ‬مسكرة وكانت طريق الفارين تمر عبر دوبلينو،‮ ‬تلمسان وجدة ثم الناظور إلى تطوان،‮ ‬ويختم تقرير الاستعلامات العامة الفرنسية بسيدي‮ ‬بلعباس بالقول في‮ ‬الناظور‮ ‬يتكلف بهؤلاء الحاكم المدني‮ ‬لهذه المدينة، ثم‮ ‬يتم نقلهم إلى تطوان حيث سيتكفل شولز لوزوم بنقلهم إلى ألمانيا‮». ‬ومركز عبور الجنود الفارين في‮ ‬تطوان أقيم‮ ‬في‮ ‬حي‮ ‬مالقة على بعد حوالي‮ ‬100‮ ‬متر من سينما‮ «‬فيكتوريا‮».‬
قاعدة الناظور،‮ ‬الواقعة على ساحل البحر في‮ ‬أقصى شرق منطقة الاستعمار الإسباني،‮ ‬على بعد حوالي‮ ‬100‮ ‬كم من الحدود المغربية الجزائرية،‮ ‬كانت مقر قيادة لجنة تحرير المغرب العربي،‮ ‬ولكنها كانت أيضا محطة رئيسية في ما‮ ‬يخص تجارة السلاح ونقطة تجمع الجزائريين والمغاربة المتوجهين للقتال في‮ ‬الجزائر،‮ ‬ويقول تقرير المخابرات العسكرية الفرنسية‮ «‬توجد ورشات في‮ ‬الناظور حيث‮ ‬يقوم خبراء‮.. ‬بصنع قنابل وألغام‮. ‬ويبدو أن مصنعا نشأ‮ مؤخرا في تطوان في ملتقى الطريق القديمة والطريق الجديدة نحو سبتة تحت إشراف وإدارة مهندسين ألمانيين».
يتذكر محمد لمكامي، عضو سابق في جهاز مخابرات جبهة التحرير الوطنيFLN ردا على استفسارات جريدة لوموند، أنشطة هؤلاء الألمان في تطوان لاسيما وينفريد مولر ‪(‬Winfried Muller‪)‬ الذي أصبح ضابطا في جيش التحرير الوطني( ‪(‬ALN تحت اسم “سي مصطفى مولر” الذي سيبقى اسمه فقط في تاريخ ترحيل المجندين، بعد ما حصل على الباكالوريا سنة 1954، أصبح السيد لمكامي مدرسا في مسقط رأسه بقرية “خميس” على بعد 45 كلم عن مدينة تلمسان، بدأ يشارك تدريجيا في مهمات نقل الأسلحة ويرافق قادة جيش التحرير الوطني قبل أن يلتحق بوزارة التسليح والاتصالات العامة (جهاز مخابرات جبهة التحرير).
يتذكر السيد لمقامي قائلا:»»كانت الاتصالات مع جنود اللفيف الأجنبي تتم داخل البلاد وبمبادرة من جبهة التحرير الوطني، في بعض المرات وخلال يوم واحد يتم تنظيم فرار حتى 10 أفراد، وفي مرات أخرى لا أحد. بعض المجندين كانوا يفرون بسلاحهم. كانوا يقدمون لنا معلومات حول أنشطة اللفيف الذي كانت وحداته مهابة أكثر من غيرها داخل الجيش الفرنسي.. كنا ننقلهم عبر الحدود ونأويهم في ضيعة بتطوان وهناك كانت شبكة سي مصطفى مولر تتكفل بهم حتى إعادتهم إلى بلادهم، كانوا فعالين جدا لأنه كان كثير من الألمان والنمساويين في وحدات اللفيف الأجنبي«.»
محمد لمقامي اشتغل كذلك في مخابرات جبهة التحرير الوطني التي أسسها بوصوف سنة 1957، يتذكر السيد لمقامي قائلا »:»في سنة 1957، اعتقلنا شخصين من المخابرات الفرنسية.. وعندما حققنا معهم أعطونا كل ما يعرفون حول المخابرات الفرنسية في المغرب وفي الجزائر. وأعطونا أسماء المغاربة والجزائريين الذين كانوا يشتغلون معهم«، كان التجسس والاستخبار من أولويات جبهة التحرير الوطني.»
شولز لوزوم المهندس الألماني المقيم في تطوان حصل على أوسمة شرفية سنة 1957 من طرف الرئيس الألماني تيودور هوس (Theodor heuss)، ويوم 2 أبريل 1958 كرمته الرئاسة النمساوية كذلك لإسهامه في عودة المجندين النمساويين… وكان ريمار هولزينغر (Reimar Holzinger) الاشتراكي النمساوي قد التقى سي مصطفى مولر سنة 1955 وأصبح يقوم بنفس الأنشطة في ما يخص تهريب المجندين النمساويين، كما كان يتكلف بالهنغاريين الذين انضموا إلى اللفيف الأجنبي بعد أحداث بودابيست سنة 1956. وكان برونو كرايسكي، وزير الشؤون الخارجية النمساوي آنذاك من مساندي الحكومة الجزائرية المؤقتة في المنفى وشبكة هولزينغر الذي يؤكد لأحد المؤرخين بالقول عندما يفر أحد النمساويين، تتصل مصلحة الترحيل بالسفارة النمساوية في مدريد التي تتكفل بتنظيم الترحيل بالباخرة من برشلونة إلى جينوة بإيطاليا ومنها نحو النمسا«.
في هذا السياق التاريخي سيحاول قسم العمليات داخل جهاز المخابرات الفرنسية الخارجية (SDECE) تنفيذ أمر تصفية شولز لوزوم. وللتغطية على هذا النوع من العمليات، كانت المخابرات الفرنسية توحي بوجود جماعة مجهولة تسمى »اليد الحمراء«، تعمل بشكل مستقل ومنفرد وتنفذ عمليات ضد النشطاء والمساندين لجبهة التحرير الوطني، وعدد كبير من العمليات كان ينفد في ألمانيا الغربية، ويتعلق الأمر كذلك بعدم الاصطدام مع الحليف الألماني. وحسب أحد قدماء الكتيبة 11 للمظليين، الذراع المسلح للمخابرات الخارجية الفرنسية. عملية الاقتراب من الهدف المذكور في وثيقة “فوكار” بخصوص شولز لوزوم كانت من اختصاص مجموعة من عملاء المخابرات الفرنسية يقودها جان بيير لونوار، الخبير في متابعة وملاحقة تجار السلاح، وكان ينشط في اسبانيا.
دور التمويه الذي كانت تلعبه اليد الحمراء لم ينطل على السلطات الألمانية التي كانت تقود من جهتها لعبة مزدوجة بحيث أن مصالح المخابرات الألمانية كانت تتوفر على مصلحة بمقر المخابرات الفرنسية بباريس وأنها تقدم المساعدة في ملاحقة شبكات مساندة جبهة التحرير الجزائرية، بما فيها فوق التراب الألماني، ولكن في نهاية سنوات 1950 ومن أجل استمالة ود الدول العربية التي تحررت للتو من وطأة الاستعمار، كانت المخابرات الألمانية ترسل عناصرها من أجل تكوين وتأطير المصالح الأمنية لسوريا والسودان ومصر، وهناك كانت عناصر المخابرات الألمانية تحاور جبهة التحرير الجزائرية وحكومتها المؤقتة، وكانت ألمانيا الغربية تنظر إيجابيا لعمليات إعادة المجندين الألمان في اللفيف الأجنبي، وتعتبر أن وجودهم في الجيش الاستعماري الفرنسي مسا بسيادتها وصورتها.
ويبدو أن تهديدات المخابرات الفرنسية كان لها أثرها بحيث يبدو أن المخابرات الألمانية هي التي أخبرت شولوز لوزوم بالخطر، عندما صدر أمر تصفيته يوم 4 غشت 1958 في مكتب” فوكار”، وقتها كان الرجل قد تحرك نحو مدريد. وتشير المخابرات الفرنسية إلى أن عمليات ترحيل المجندين الفارين أصبحت تتم دائما من تطوان، لكن يشرف عليها شخص آخر اسمه أوطو بيرجي، وهو أيضا موظف قنصلي ألماني….
والملاحظ هو أن تطوان معقل الجواسيس ونقطة مراقبة جهوية في قلب الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية التي تنهار، وبالتالي كان محط اهتمام كل المخابرات الأجنبية، بما فيها المخابرات الأمريكية والروسية.
ومثل العديد من العمليات التي طلب من المخابرات الفرنسية تنفيذها في تلك الفترة والتي أجهضت أو تم التخلي عنها. فإن الأمر الذي صدر ضد شولز لوزوم لم يصل إلى نهايته. وبعد أبحاث مكثفة في الجزائر والمغرب وألمانيا والنمسا، تمكنت جريدة لوموند من العثور عليه، في يونيو 1965 بمدريد حيث عاد الرجل البالغ من العمر 69 سنة إلى أنشطته السابقة وعاد إلى حياته الطبيعية.
قبل ذلك بثلاث سنوات، وبالضبط يوم 15 شتنبر 1962، أعلن السيد مصطفى مولر نهاية عمليات مصلحة إعادة المجندين الفارين، ومن ضمن 4111 مجندا أجنبيا فارا تم ترحيلهم إلى بلدانهم عبر هذه الشبكة هناك 2783 ألمانيا و 489 اسبانيا و 447 ايطاليا و 137 هنغاريا و 87 يوغسلافيا و 41 بلجيكيا و 35 سويسريا و 31 نمساويا و 16 اسكندنافيا و 19 هولنديا و 7 من لوكسمبورغ و 3 يونانيين و 9 بريطانيين وأمريكيين و 3 أمريكيين لاتينيين وكوري واحد وبلغاري واحد.
وهكذا أصبح شولز لوزوم واحدا من الفاعلين المجهولين في مغامرة جماعية سقطت طي النسيان لخصتها في أبريل 1961 مجلة the ” overseas wekly “في عنوان له دلالته( »المصلحة التي سرقت فيلقا بكامله من اللفيف الأجنبي دون أن تطلق رصاصة واحدة).

بتصرف عن لوموند


بتاريخ : 14/09/2017