يَمشي بتُؤدَة مَائِلاً

انتهبت إلى طريقته في المشي وأنا أخرج من بيتي كل صباح، قاصداً مقر عملي.. كان مسكنه بجوار مسكني، أحييه تلقائياً فيرد على تحيتي لا مبالياً بحركة من شفتيه ورأسه.. أقدر أنه منشغل بالتركيز على كيفية بناء خطواته البطيئة في المشي، وأفترض أنه يتسلَّى بِعَدِّها مع كثير من الانتباه إلى مواقع أقدامه، بحكم ما لحق جسمه من عوارض الزمن.. وهكذا استأنست بحضوره وطريقة سيره، التي لا أتردد في وصفها بدرجة الصفر في الحركة.. استأنست بوجوده ومظهره رغم أن العلاقة بيني وبينه لم تتجاوز عتبة المشاهدة، وتبادل تحية خجولة من الطرفين عن بعد.
كنت في مقتبل العمر وافداً جديداً على الحي، وكان في سن حرجة، ولا أدري كم قضى من سنوات قبلي داخل هذا الحي.
كانت حيويتي الصباحية وسعادتي الغامرة ببداية يوم جديد، تدفعني للحركة بإيقاعٍ ونظرةٍ مختلفتين عن مظهره وشكل حركته، وصوَّر نظراته التي تبدو لي وكأنها مُصَوَّبَة نحو الباطن أكثر من انفتاحها على الفضاءات الْمُشْرَعَة أمامه، وقد غطتها أشعة الشمس الصباحية بألوان الدفء والضياء..
أتقاسم بداية كل صباح مع جاري صاحب المشية البطيئة، نظرة وتحية، ثم لا أراه بعد ذلك ولا يراني. أتصوَّر أنه يمارس كل صباح قليلاً من الحركة، ثم يعود إلى مسكنه منتظراً أضواء الصباح القادم وأشعة الشمس الأولى، ليخرج من جديد، فنلتقي ليحرك رأسه وشفتيه وهو يرد على تحيتي الصباحية.. يتم ذلك، ضمن حدود مراسيم الجوار الجديدة، في عالم تخلى عن كثير من القيم التي كانت سائدة بين الجيران في أحياء المدن العتيقة..
لم يحصل طيلة سنوات إقامتنا المشتركة في مساكن قريبة من بعضها، أن تبادلنا أطراف الحديث المباشر، باستثناء تحية الصباح من جهتي، وإيماءة الرأس وحركة الشفتين من طرفه.. إلا أن هذه الصورة اليومية الثابتة، لا تستبعد إمكانية حصول حوار غير مُعْلَن بيننا، حوار يحصل بسبب تواصلنا المكاني، وما يمنحه كل منا للآخر من تصوُّرات لها صلة بمظهره العام، ولها صلة في الآن نفسه، بمقتضيات الحي الذي يحتضن وجودنا.
أذكر جيداً، أنني خاطبته مرة بعد تحيتنا التقليدية متسائلاً، هل يمكنني أن أساعدك في الانتقال إلى مكان ما؟ فابتسم ابتسامة خفيفة، ثم شكرني بصوت خافت ومتردِّد.. وواصل سيره.. أدركت لحظتها أن للرجل مشاغل واهتمامات أخرى، ولا وقت لديه لحوار المجاملات اللطيفة والعارضة. ولا شك أن تمارين المشي الصباحية التي يواظب عليها، تهبه أحاسيس ومُتَع تغنيه عن عواطف ومجاملات الأهل والجيران. إضافة إلى أن مخزونات تجارب سنوات عمره، تجعله قادراً على التصالح مع ذاته في أحوالها المختلفة..
كنت أنا الذي بادر بمخاطبته، وجاء رد فعله المباشر على سؤالي، ليؤكد لي سلامة اعتقادي بوجود حوار صامت بيننا، ذلك أن سؤالي يرتبط بتقدير شخصي لأحواله الصحية وطريقته في المشي. أما جوابه وابتسامته ثم مواصلته للسير، فلا أشك في كونها مجتمعة، تحمل بدورها جملةً من التصوُّرات عني، تصوُّرات سيضيف إليها سؤالي معطيات أخرى، تعزز دوائر الحوار الصامت القائم بيننا، منذ أن أصبحت أحد جيرانه الجدد.
تساءلت عن أسباب عدم قدرته على المشي، فقد بدا لي من خلال طريقته البطيئة في المشي أنه لا يتحرك، خاصة وأنه يتوقف باستمرار ليستجمع أنفاسه، ثم يتقدم قليلاً.. الأمر الذي يُشعر من يُتابع حركة سيره عن بعد، بأنه لا يتوخَّى بحركة سيره بُلُوغَ أَمْرٍ محدَّد، إنه يمشي الهوينى.. أي كنت عندما أَلْتَقِيهِ كل صباح ماشياً لحظة مغادرتي للمكان الذي يجمعنا. أتساءل ماذا أصابه بالضبط؟ أسأل نفسي فُضُولاً، ثم أفترض عوامل محدَّدة تساعدني على تفسير علته.. أسأل نفسي ثم أجيب، ثم أنسى الموضوع في غمرة مشاغلي الخاصة، إلى أن ألتقيه من جديد في الصباح الموالي مُتَحَرِّكاً، فأستأنف حواري معه بصوت واحد غير مسموع.. وأذكر أن رأيي استقر على كون صعوبات المشي لدى جاري الذي لا أعرفه، تعود إلى تقدُّمه بكل بساطة في السن، بحكم أن أغلبية البشر يعانون من صعوبات في الحركة عندما يتقدم بهم العمر.
يتعلم البشر المشي في طفولتهم، حيث يُكلِّفهم ضبط التوازن عند الوقوف وأثناء الحركة، كثيراً من السقوط والكدمات في مختلف أطراف الجسم، ولا يتوقف الأمر عند هذا، بل يتعداه في أشهر التدريب على المشي بعد الوقوف، إلى حصول ما يُنَفِّر من المشي على اثنين وتفضيل ما كان يحصل قبلها، أي المشي على أربعة.. وفي مرحلة لاحقة أي سنوات العمر المتأخرة، نتعثَّر في المشي من جديد، ولا يعود بإمكاننا أن نكرر ما فعلناه في الصبا، فنضطر لتكييف النفس مع مقتضيات الاحتياط الذي يجنبنا السقوط المحتمل..
كنت أفكر في كل ما سبق بصورة خاطفة، لحظات معاينتي اليومية العارضة لطريقة جاري في المشي، ورغم أن الأمر لم يكن أكثر من تداعيات أحدث فيها نفسي، إلا أن استئناسي بحصوله المتواصل، أكد لي وجود حوارٍ غيرِ معلنٍ بيني وبينه. ولا شك أن أحاسيسه الخاصة بالقاطن الجديد، تختلف عن مجمل ما كان يدور بخاطري نحوه.. فما يعنيه من مشاهداته لما يجري أمامه في الحي يختلف عما يعنيني، ثم إن متطلبات طريقته في المشي تُلزمه التركيز الشديد، والاحتياط من إمكانية التعثر والسقوط.. الأمر الذي يترتب عنه في الأغلب الأعم، عدم عنايته بما يدور حوله، ذلك أن قضيته الأساس كل صباح، تتمثل في نجاحه في جولته الصباحية القصيرة، ثم عودته إلى بيته سالماً.. ليتمكن من مواصلتها غداً وبعد غد.. بحكم أن تَعَلُّقَ البشر بمزايا الحياة ومآثرها يتضاعف في السنوات والأشهر التي يبدأ فيها العد العكسي المقرونِ بِدُنُوِّ الآجال..
لم أعد أنتبه في زمن لاحق، إلى حركة المارة في الحي الذي أقطنه، ونسيت طريقة جاري في المشي البطيء، حتى خِلْتُ أنني لم أشاهده يوماً. وأن ما كنت أعتقد أنه حصل لي مع جاري العجوز، مجرد خيالات وإسقاطات مرتبطة بأحوالي الصحية اليوم، ولا صلة لها بمشاغلي التي توالت وتعددت مُوَلِّدَةً عوالم مكثفة من الحكايات والمواقف، الصانعة لكثير من الخبرات التي نتعلمها ونحن نسعى في الأرض، ونبني مجموعة من المؤهلات التي تُسْعِفُنُا بالقدرة على حُسْن مواجهة تحولات الزمن، وما ترسمه من علامات وآثار في الجسد و العقل والوجدان…
أتذكر أنني كنت أراه يومياً، أراه في الصباح الباكر ماشياً دون مشي، لكنني لا أتذكر اليوم كم مَرَّ من الزمن دون التقائي به، أو رؤيته ماشياً أو واقفاً.. فقد مرت عقود من الزمن متسارعة، واختفت صوَّر اللقاء شبه المنتظم الذي كان بيننا، ولم يعد بإمكانه أن يعود إلا باستخدام حِيَّل الذاكرة، القادرة وحدها على إعادة بناء الصوَّر، التي كانت بالأمس عنواناً لحركة حية رغم كل عيوبها وأعطابها، مَا ظهر منها وما خفي.. إلى أن حصل أمر لا يخلو من غرابة، ذلك أنني عندما خرجت هذا الصباح من بيتي وجدت نفسي أمامه، أمام جاري بطريقته المعهودة في المشي والحركة.. فبدأت أُصَوِّب نظري بتركيز شديد نحو ما أرى، حيث تستحيل عودة هذا الذي أرى أمامي بعد عقود من الاختفاء.. واصلت النظر مُحملقاً في ما أرى، فتبينت أن الذي يقف أمامي يشبهني، إنه يعود اليوم بملامحي وملابسي.. فازدادت حيرتي وأصبت بالضيق.. ثم أغمضت عيني وواصلت السير..
وأنا أغادر بيتي في صبيحة اليوم الموالي، التفتُّ يميناً ثم يساراً بحثاً عن جاري الذي التقيته مجدداً بالأمس، فلم أعثر له على أثر.. فتأكدت أن من رأيت بالأمس لا علاقة له بمن افتقدت منذ عقود.. وجدت نفسي في النهاية أمام آخر يشبهه، وهو اليوم بدوره يمشي بِتُؤَدَة مائلاً..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 15/03/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *