الإدارة المغربية واستحقاقات النجاعة والتخليق: .. مؤسسة التدبير التوقعي للرأسمال البشري للمسؤولية العمومية: مدخل مؤسساتي للإصلاح

أنوار مزروب

يجمع المتتبعون للدينامية السياسية بالمغرب على كون خطاب رئاسة الدولة ل 30 يوليوز 2019 شكل مرحلة تأسيسية جديدة في مسلسل بناء الدولة المغربية الحديثة والمواطنة، وذلك على منوال نفس النفس الإصلاحي الجريء الذي دشن في 09 مارس 2011. إن كل محلل لثنايا الخطاب السياسي المذكور سيخلص لا محالة إلى ثورة منهجية جذرية عن البراديكم التقليدي لهكذا خطابات (ثورة في الشكل والموضوع والمقاربة)، خطاب سياسي ولج بلغة واصفة شاخصة وفاعلة في نفس الآن، بحيث شخصت الوضع العام و رسمت ورقة طريق ومداخيل عملية لتلافي تلك الصعوبات التي لا تزال تفرمل أهداف الألفية للتنمية في المملكة الثانية للعهد الجديد بالمغرب. من هذا المنطلق، وضعت توجيهات الخطاب المحددة الأهداف والجداول الزمنية اليد على إحدى الجروح الغائرة التي تنهش جسد منظومتنا الإدارية منذ جلاء زملاء موريس دو فيرجي وميشيل روسي عن دواليب تدبيرها. لقد حسم التشخيص الملكي النقاش الزائد مؤخرا في موائد الثرثرة حول أصول ومكامن الخلل واللا أداء في إدارتنا بدون مواربة ولا مزايدة، ويمكن إيجاز تلك الاختلالات والاشكاليات في ما يلي:
-الخلل الأول : تحويل مناصب المسؤولية العليا العمومية إلى رهان عصبي1( من العصبية ) وعائلي بغطاء حزبي وسياسي،
-الخلل الثاني: غياب حس الوطنية الصادقة لدى غالبية المسؤولين المشرفين على هذه المناصب ومبارياتها، التي تتم غالبا بالتحايل على القوانين والمساطر الجاري بها العمل، حيث لا غرابة أن نسمع مؤخرا تنصيبا لمسؤول في مجلس حكومي لم يخضع لمقابلة بخصوص مشروعه أو عن تنصيب مسؤول نجح بمشروع سبق لمتباري أن رسب بنفس المشروع أو عن تنصيب بروفايل لا يتوفر حتى على ماستر أو عن تنصيب موجز كمدير مركزي في منصب حساس وبعيد كليا عن تكوينه الأساسي المتواضع …الخ من الممارسات الشادة والمتنافية مع الترسانةالتنظيمية لإدارة 2011،
– الخلل الثالث: استمرار تأثير وسطوة جيل المحافظين واليمينيين وعقليات العهد القديم في مناصب ومسؤوليات حكومية وإدارية حساسة، ما ينعكس سلبا على أداء ونجاعة تلك المؤسسات.لذلك ووعيا من رئاسة الدولة بخطر استمرار تلك البروفايلات والعقليات في تلك المواقع الإدارية، فقد أمر المرؤوسة رئاسة الحكومة بإعداد جرد قطاعي شامل للمناصب الإدارية العليا الواجب تحريرها من قبضة تلك العقليات التي فاتها قطار مغرب 2019 والعهد الجديد والعتبة الدستورية لسنة 2011،
– الخلل الرابع: عدم احترام المبادئ الدستورية القاضية بتساوي المواطنين في الولوج للمناصب والمسؤوليات العمومية. وكذا عدم الانضباط لمعايير الكفاءة والاستحقاق والأهلية في تلك التعيينات والتوظيفات.
على مستوى الممارسة، قد يزايد البعض بخصوص طرح عدم احترام الدستور بكون الحكومة تتوفر على بوابة عمومية للتوظيف2، حيث تقوم بمهمتها الرامية إلى إخبار كل المواطنين بإعلانات التوظيف والمباريات لولوج المسؤولية العمومية، لكن الحقيقة المستترة أن المتتبع الإداري وغير الإداري يعلم أن الوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية لا سلطة إدارية لديها على مجريات و مدى احترام القانون في ما يحال عليها من صناديق المؤسسات والوزارات السوداء-الموارد البشرية -،كما أن الوزارة تعلم أكثر من غيرها بوجود عدة مؤسسات – في. أي. بي- لا تزال ترفض إلى اليوم دسترة عملها والقبول بمجرد لزوم إخبار البوابة العمومية للتوظيف بإعلانات توظيفها، بل والفظيع أنها تعلم أن عدة مؤسسات لا تخجل من استفزاز روح الدستور و تلجأ في إطار توظيف ذوي القربى البيولوجية بأقل تكلفة إلى تفويض عمليات التوظيف لمكاتب خاصة للتوظيف3 –سماسرة هاي كلاس-،حيث يتم اختصار الجهد والمسافات والمدد الزمنية لاستقبال أولاد العائلةً المحظوظين دون الحاجة إلى إعداد لوائح المدعوين لاجتياز الشفوي مع المشاكسين من ً ولاد الشعب ً و الكفاءات الوطنية التي لا تملك غير الرأسمال الثقافي في معركتهم السيزيفية للولوج إلى بعض ً الضيعات العائلية ً ً – العمومية- الشديدة التحصينً.
ما العمل؟
خلق مؤسسة دستورية للرأسمال البشري: بنك كفاءات الوظيفة العمومية :
إذا كان القاصي والداني يقر بأن نسبة مهمة من مصائب إداراتنا ومسؤولياتنا العمومية نابعة من جسمنا الحزبي العليل، فإنه من المعيب والعبث القبول، ابتداء من 30 يوليوز 2019، بوصفات وبروفايلات تلك المؤسسة الحكومية لفرض من يسير شؤون إداراتنا مستقبلا، لما ينطوي عليه الأمر من معاكسة توجيهات رئاسة الدولة و رهن مستقبل و مقدرات و موارد مؤسسات لأشخاص غير مؤهلين أو على الأقل منحدرين من مؤسسات حزبية ضالعة في أزمة الإدارة الهيكلية الحالية. بناء عليه،أرى في تقديري المتواضع وبحس المواطنة الفاعلة والمسؤولة الوارد في نفس الخطاب المؤسس، أن التعجيل بخلق مؤسسة دستورية مركزية للمسؤولية العمومية العليا، مدخل يستحق الدراسة من الجهات المختصة والفاعلين الدستوريين، خاصة المعنيين بالتخليق والحكامة وضمان احترام مبادئ القانون والنزاهة والمساواة والنجاعة والاستحقاق في الولوج للمناصب العليا في الإدارات والمؤسسات الحكومية.
الإطار التنظيمي لمؤسسة مكلفة بالتدبير التوقعي للرأسمال البشري الإداري:

تعزيزا وتوطيدا لمبادئ الحكامة الجيدة والتعاقد المبني على الأهداف وأخلاقيات المرفق العمومي وربط المسؤولية بالمحاسبة، يمكن تصور التنظيم الإداري لهكذا مؤسسة مستقلة، بعضوية مؤسسات حكامة4 في مجلسها الإداري ك:
*- مؤسسة المجلس الأعلى للحسابات: يمكن للمؤسسة أن تترأس المجلس الإداري،على اعتبار أن قضاتها راكموا تجربة و خبرة في كل ميادين التدبير بالإدارات والمؤسسات العمومية كما خبروا اختلالاتها وصعوباتها،
*-مؤسسة وسيط المملكة: اعتبارا لاختصاصاتها المتقاطعة مع التخليق ومحاربة كل أشكال التجاوزات وخرق القانون بالمرفق العمومي، تتوفر هذه المؤسسة على الصفة الاعتبارية والتموقع الدستوري اللازمين لتشغل موقع تنفيذي في المجلس الإداري للمؤسسة إلى جانب المجلس الأعلى للحسابات.
*-مؤسسة النيابة العامة: عضوية مؤسسة الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات سيعتبر إشارة قوية لمركزية المحاسبة وربط المسؤولية بالمحاسبة في أي تعاقد إداري مع أي مرشح لتولي منصب مسؤولية عمومية. على هذا المستوى أيضا،هذه العضوية ستساعد ولوعلى المستوى الرمزي والسيكولوجي في نشر واستحضار الفاعلين الإداريين لعواقب ممارسات إدارية منحرفة كسوء استغلال السلطة والرشوة واستغلال النفوذ والمتاجرة في خدمات عمومية والتقصير الإداري والاغتناء غير المشروع، الخ.
*- الهيئة الوطنية المركزية للنزاهة والوقاية من الرشوة: حضور المؤسسة سيكون أيضا ذا دلالة لمسألة تخليق المرفق العمومي ولتحقيق أهداف النجاعة والاستحقاق المنشودين.
*-المدرسة الوطنية العليا للإدارة: بحكم الإصلاح البيداغوجي الجديد للمدرسة يمكن لها أن تقدم قيمة مضافة كبيرة لعمل واختصاصات هذه المؤسسة، خاصة في الشق المتعلق بتنمية وتطوير قواعد بيانات الكفاءات الإدارية المطلوبة على المدى المتوسط والبعيد.
*- الوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية: نظرا للطبيعة السياسية للمؤسسة الحكومية، يمكن الاكتفاء بمنح صفة ملاحظ غير عضو للوزارة في مؤسسة المجلس الإداري لهذه الهيئة/المندوبية/المؤسسة الوطنية المكلفة بالتدبير التوقعي للرأسمال البشري للوظيفة العمومية.

اختصاصات المؤسسة المكلفة بالتدبير التوقعي للرأسمال البشري الإداري:

على المستوى الوظيفي، يمكن أن يناط بالمؤسسة المقترحة في هذا المقال مهمة تطوير وإغناء سبورة معطيات4 للوظيفة العمومية العليا، كما يمكن أن يعهد لها برصد وتتبع وضخ الكفاءات العالية المستوى المطلوبة في شريان الوظيفة العمومية والإدارة المغربية. وهكذا ستتمكن المؤسسة الجديدة من الإشراف الكلي على المراحل التي تلي الإعلان عن توظيف في منصب عالي أو التعبير عن الحاجة6 ،التي ستبقى من اختصاصات الإدارات والمؤسسات المعنية، حيث ستظل محتفظة باختصاص إعداد إعلان المباراة وبطاقة المنصب ونشره لزوما على البوابة العمومية للتوظيف، فيما ستناط المرحلة الثانية والثالثة من الإعلانات للجان وقضاة ومداولات خبراء المؤسسة الجديدة، التي ستتكلف بالمراحل العملية الحساسة من مسطرة التوظيف، خاصة انتقاء ومناقشة المشاريع والبروفايلات المقترحة لتولي المنصب العمومي، وهي اللجان التي ستضمن توفر ميزة نجاعة الاختيارات والمداولات بحكم تعدد المشارب pluridisciplinarité اللازمة لضمان تقييم موضوعي ومتجرد وناجح للبروفايلات المعروضة أمامهم، بعيدا عن إيماءات وتوصيات وتوجيهات وضغوطات العقليات البالية في المؤسسات العمومية والوزارات والمصالح الإدارية.

إجراءات انتقالية ملحة…
وقفا للنزيف:

في انتظار أن ترى المؤسسة المستقلة المنشودة النور وضمانا لعدم إنتاج نفس ظروف ما قبل خطاب 30 يوليوز 2019 بالإدارات والقطاعات الحكومية، أرى في تقديري المتواضع الحاجة ملحة لانكباب الحكومة أو التيار الجدي منها على الأقل كوزارة الاقتصاد والمالية ومؤسسة المجلس الأعلى للحسابات على خلق لجنة وطنية بي-وزارية مؤقتة برئاسة مؤسسة مستقلة كالوسيط أوهيئة النزاهة أو المفتشية العامة للمالية كامتداد طبيعي للمؤسسة ذات اختصاص الرقابة القبلية على النفقة العمومية، على أن تكون مهمتها الإشراف على مباريات الولوج إلى مناصب المسؤولية العمومية، وذلك احتراما للظرفية المجتمعية والسياسية الدقيقة وتحفيزا لجهود إشاعة مناخ الثقة والنجاعة المؤسساتية وتحصينا للإدارة المغربية ضد محاولات تغلغل نفس العقليات المتجاوزة والمقصرة في حق الوطن والمواطن إلى الكراسي والامتيازات وبارافورات التنقلات الوهمية السمينة والسفريات السياحية.
كتب في 31 غشت 2019
إعلامي مختص، باحث في القانون الدولي والجغرافيا السياسية

هوامش:
1: و هو مصطلح استعمله ابن خلدون ويفيد كثيرا في فهم طبيعة السلوك البشري لمجتمعات شمال افريقيا خلال القرون الوسطى.
2:www.emploipublic.ma
3:On parle des fameux bureaux ou cabinets privés de recrutement, qui assurent la mission de « détournement légal » de la loi et de la constitution.
4:نقصد خاصة مؤسسات الوسيط و المجلس الأعلى للحسابات و المجلس الوطني لحقوق الإنسان و النيابة العامة
5:Banque de données ou tableau de bord
6:expression de besoin

الكاتب : أنوار مزروب - بتاريخ : 17/09/2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *