القيم بين الأمس واليوم

محمد رزاقي

تعيش المجتمعات صراعات وتجاذبات في مجالات متعددة تهم منظومة القيم بالأساس، وذلك نتيجة لعدة عوامل لعل أبرزها العولمة والإنفتاح الإقتصادي وتطور وسائل التكنولوجيا والإتصال، مما جعل من العالم قرية صغيرة ذات مساحة واحدة مشتركة لا حدود بين مكوناتها ولا تمايز، فلم يعد بالإمكان التفرقة بين ما هو منتوج أو إنتاج محلي وما هو غير ذلك، فصارت المجتمعات بذلك متشابهة في أساليب العيش واللباس والمأكل والترفيه. وعلى طرف النقيض من هذا، تنامت ظاهرة النزعة نحو الخصوصية الثقافية والعرقية أحيانا بشكل متطرف يصعب معه التعايش داخل المجتمع الواحد.
لم يسلم المجتمع المغربي من تداعيات التحولات والتجاذبات داخل منظومة القيم التي تشكل المؤطر والمحدد الرئيسي لسلوكات وتصرفات الأفراد والجماعات داخل أي مجموعة أو مجتمع. وإذا كانت الأسرة تشكل النواة الأولى لكل مجتمع متنوع في مكوناته وثقافاته، إذ تعتبر المؤسسة الأولى والقناة الرئيسية للتثقيف والتلقين القيمي إلى جانب المدرسة وباقي الفضائات الخارجية، فقد عرفت الأسرة المغربية تحولات كبيرة منذ الإستقلال إلى اليوم، سواء على مستوى بنياتها الهيكلية، والتي انتقلت من الأسرة الممتدة الكبيرة، والتي تتميز بالأساس بوجود نوع من التكافل والتضامن بين جميع أفراد الأسرة الكبيرة الواحدة المتكونة من عدة وحدات أسرية تجمعها الإقامة المشتركة والقرابة الدموية، تحولت هذه الأسرة عبر تطور الأحداث ومرور الزمن إلى الأسرة النووية الصغيرة المكونة من الزوجين وأطفالهم، والتي تتسم بالطابع الفردي في الحياة الإجتماعية.
كما عرفت الأسرة تحولات على مستوى نوع العلاقة التي تجمع بين أفرادها من الداخل، سواء بين الٱباء والأبناء، الزوج والزوجة، أو حتى العلاقة التي تجمع بين الإخوة الكبار والذين يصغرونهم سنا، بحيث انتقلت العلاقة من علاقة سلطوية عمودية أساسها مبدئ ثنائية السلطة والطاعة بين رب الأسرة ومن هم تحت مسؤوليته، أي سلطوية الأب مقابل طاعة الأبناء، سلطوية الزوج مقابل طاعة الزوجة، سلطوية الأخ الأكبر مقابل طاعة باقي الإخوة الذين يصغرونه سنا، علاقة مبنية على الأمر والطاعة، انتقلت هذه العلاقة إلى علاقة أفقية يطبعها التفاهم والنقاش والتشاور، فصارت القرارات تتخذ بشكل جماعي تشاوري تكون فيها التوافقات والتنازلات من هذا الطرف أو ذاك شرطا أساسيا للإستمرار.
ويعزى هذا التحول بالأساس إلى تغير ظروف العيش التي عرفها المجتمع المغربي منذ فجر الإستقلال وما تبعه من حركات تمدن وهجرة سواء من البادية نحو المدينة أو نحو بلدان أوروبا.
لقد لعبت العوامل الخارجية أيضا دورا كبيرا في تغير منظومة القيم داخل المجتمع المغربي عبر تغير مصادر وقنوات التلقين القيمي. فعكس ما كان عليه الوضع في الماضي حيث كانت مصادر التثقيف وقنوات تلقي القيم محلية محدودة وبسيطة، أدى التطور الإعلامي والإنفتاح على ثقافات أخرى، ومع ظهور المؤسسات الدولية التي تشتغل على مجالات حقوقية كونية كالمساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الطفل وحقوق الإنسان والحريات الفردية، هذه المؤسسات التي تضغط على الدول والحكومات من أجل فرض قوانين قد لا تتلائم والخصوصية المحلية لهذه الدول، أدى كل هذا إلى ظهور، بين الفينة والأخرى، بعض الإنشقاقات والتصدعات داخل المجتمع تنذر بالصدام، تجاذبات بين أطراف تعتبر مثل هذه القيم الدخيلة عامل هدم وتفكيك وانحلال للمجتمع، وبين ٱخرين يعتبرونها ضرورة لم يعد بالإمكان التراجع عنها في زمن صار منفتحا ومتسارعا لا يمكن معه الرجوع إلى ماض متزمت، وبين هذا الرأي وذاك، بين أصالة تنظر لماض جميل ومعاصرة تتطلع إلى غذ أرحب وأوسع، يصبح اليوم المثل المغربي (الجديد له جدا والبالي لا تفرط فيه) ضرورة ملحة تفرض نفسها من أجل تفادي القطيعة والخروج بأقل الأضرار من صراع صار يصطلح عليه بصراع الأجيال.

الكاتب : محمد رزاقي - بتاريخ : 19/05/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *