المذهب المالكي و العقيدة الأشعرية

علي المرابط الورزازي

اختيارات المغرب المذهبية والعقدية

ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري –رحمه الله- في وقت رفعت فيه بعض الفرق الكلامية رؤوسها “فجحرهم في أقماع السمسم، و يعتمد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، متمسكا بالدلائل العقلية والشواهد السمعية، وإذا تأملت كتب الحديث المتفق على صحتها كموطأ مالك رحمه الله وصحيحي البخاري ومسلم وجدته ناطقا عنهما وناقلا منهما لم يأت برأي ابتدعه ولا مذهب اخترعه، وسبيله في بسط القول في مسائل الأصول كسبيل مالك -رحمه الله- وغيره من الفقهاء فيما بسطوا القول فيه من مسائل الفروع”..
وقد أصبح المذهب الأشعري مرجعا أساسا لحفظ عقائد المسلمين، والرد على المخالفين يقول الإمام القاضي عياض في ترجمته للإمام أبي الحسن الأشعري:” وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعإلى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة…”
وهناك نص آخر للقاضي عياض يؤكد فيه هذه الحقيقة التي لا تترك مجالا للشك في كون الإمام أبي الحسن الأشعري ظل وفيا لمذاهب أهل السنة والجماعة في مجال الاشتغال العقدي، يتعلمون على يديه أساليب الدفاع عن العقائد الدينية، حتى أصبح مصطلح الأشعرية مرادفا لمصطلح أهل السنة.
يقول القاضي عياض: “… فلما كثرت تواليفه – الإمام الأشعري- وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصرة الملة فسموا باسمه وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعرفوا بذلك وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة، إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه… فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه”.

نصرته لعقائد أهل
السنة والجماعة

لقد كرس الإمام أبو الحسن الأشعري حياته لنصرة عقائد أهل السنة والجماعة بأدلة عقلية ومنطقية تستند إلى ما قرره الشرع الحكيم.” معتزم لإظهار معايب المعتزلة وفضائحهم”
وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمن بن خلدون: “وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطرق النقل والعقل ورد على المبتدعة في ذلك كله”.
وقد أصبح للمذهب الأشعري السيادة على أتباع المذاهب الفقهية في العالم الإسلامي، وتيسر له الانتشار والانتصار بفظل المنهج الوسطي الذي سلكه صاحب المذهب، فظلا عن اعتناق كبار العلماء لمذهبه من مختلف فروع الثقافة الإسلامية.
وبهذه الوسطية التي أضحت سمة بارزة في المذهب الأشعري عموما استطاع هذا المذهب أن يصمد أمام مختلف التيارات الفكرية التي عرفتها الحياة الإسلامية ووجد طريقه للانتشار بين مختلف أقطار العالم الإسلامي.
إن اعتبار جميع أهل القبلة مسلمين لا يجوز تكفيرهم بذنب ما لم يستحلوه، وهذا أصل مهم عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ثم الإعلان عن تصويب المجتهدين في الفروع ، إضافة إلى مسألة تكافئ الأدلة التي تعني الاعتراف بقدر من الصواب في كل طرف من الطرفين المتقابلين يصححه التوسط الذي هو أساس المذهب الأشعري الذي يمثل قمة التسامح الديني بإعلانه عن هذه المبادئ الأساسية منسجما تماما مع حياتنا الدينية المعاصرة وينفعها أجل النفع.
لقد حظي الإمام أبو الحسن الأشعري – رحمه الله- بتقدير جميع العلماء، من مختلف فروع الثقافة الإسلامية، والمذاهب الفقهية، وذلك لمكانة هذا الإمام المجدد الذي يعتبر بحق رائدا في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي على طريقة أهل السنة.

انتشار المذهب الأشعري

لقد أصبح للمذهب الأشعري السيادة على أتباع المذاهب الفقهية الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي، وتيسر له الانتشار والانتصار بفظل المنهج الوسطي الذي سلكه صاحب المذهب الإمام أبو الحسن الأشعري، فظلا عن اعتناق كبار العلماء له من مختلف فروع الثقافة الإسلامية.
لقد انتشر المذهب الأشعري في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فانتشر في العراق في نحو سنة 680هـ ومنه إلى الشام، وفي مصر على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وفي المغرب انتشر المذهب الأشعري على يد عبد الله محمد بن تومرت، وإن كان المغاربة قد عرفوا هذا المذهب السني على عهد المرابطين.

المذهب الأشعري والصوفية

لقد انتشرت العقيدة الأشعرية بوصفها عقيدة سنية تمتاز بالوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي، حيث تلقتها الأمَّة بقبول حسن، ومزجت بين علم التصوف الذي جعل منها عقيدة عملية بعد تأثر صاحب المذهب بالإمام أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي (ت243ﻫ) أحد أعلام الصوفية وأعلم العارفين في زمانه؛ وأستاذ السائرين  الذي تتلمذ على يديه الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد (ت297ﻫ) سيد الطائفة، ومقدم الجماعة، وشيخ صوفية بغداد، وأحد أعلام التصوف على الإطلاق وهو من أئمة التصوف السني القائم على نصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة، وقد أثر عنه قوله:”الطريق إلى الله مسدود إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى لله عليه وسلم”.
وقوله أيضا: “علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به.
وقد اعتبر الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي الصوفية من جملة أصناف أهل السنة والجماعة، فبعد أن تحدث عن علماء العقيدة والفقهاء والمحدثين وعلماء اللغة وعلماء القراءات ذكر الصوفية فقال:” والصنف السادس منهم، -أي من أهل السنة والجماعة- الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا، واختبروا فاعتبرو، ورضوا بالمقدور، وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك مسؤول عن الخير والشر، ومحاسب على مثاقيل الذر، فأعدوا خير الإعداد، ليوم المعاد، وجرى كلامهم في طريقي العبارة والإشارة على سبيل الحديث، دون ان يشتري لهو الحديث، لا يعملون الخير رياء، ولا يتركونه حياء، دينهم التوحيد، ونفي التشبيه، ومذهبهم التفويض إلى الله تعإلى، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والقناعة بما رزقوا، والأغراض عن الاعتراض عليه.
ولهذا السبب نجد تلك الصلة الوثيقة بين العقيدة الأشعرية السنية، وطريقة الإمام الجنيد -رحمه الله- في تقويم السلوك، والفقه المالكي عموما. وهذه المنظومة المتكاملة: العقيدة والتصوف والمعاملات، هي قوام الإسلام وأساسه، وهي كلها تصدر عن الشرع الحكيم المتمثل في الوحي المنزل: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة.
لقد استطاع الإمام أبو الحسن الأشعري بمنهجه الوسطي الذي استعمله في الدفاع عن عقائد أهل السنة والجماعة أن يتدرج بمفكري هذه العقائد من مستوى النظرة الضيقة للنصوص العقدية أو القراءة الحرفية لتلك النصوص والتي تنتهي حتما إلى إقرار عقيدة التشبيه والتجسيم المرفوضة إسلاميا؛ إلى مستوى سامي من التفكير العقلاني الذي يحقق التنزيه المطلق.
اما بالنسبة للإمام مالك فأول المذاهب الفقهية عاش اربعين سنة في ظل العهد الأموي و عاش ستة و اربعين عاما خلال الحكم العباسي خلال هذه الفترة شهدت الامة الاسلامية صراعات سياسية نجم عنها موت كثير من العلماء ، بدء التصنيف في العلوم و تدوينها وظهور الفرق الكلامية .
يقول الذهبي: «في عصر هذه الطبقة تحولت دولة الاسلام من بني امية إلى بني العباس، في عام اثنين وثلاثين ومئة. فجرى بسبب ذلك التحول سيول من الدماء، وذهب تحت السيف علماء لا يحصيهم إلا لله، بخرسان و العراق والجزيرة والشام. و فعلت العساكر الخراسانية، الذين هم المسودة، كل قبيح . فلا حول ولا قوة الا بالله». ثم يورد الذهبي لائحة طويلة من العلماء الذين ماتوا في هذه الفترة حيت حصل انحسار واضح في طبقة حملة العلم، منهم القراء و كتاب المصاحف والحفاظ و الفقهاء الخ. بعد ذلك يبين الذهبي ان ذلك هو السياق الذي نجمت فيه ظاهرة التدوين وتشعب المقالات الكلامية. يقول: «و في هذا الزمن ظهر بالبصرة عمر (كذا) بن عبيد العابد و واصل بن عطاء الغزال ودعو الناس إلى الاعتزال والقول بالقدر و ظهر بخراسان الجهم بن صفوان و دعا إلى تعطيل الرب عز وجل وخلق القرا و ظهر بخراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر بالغ في اثبات الصفات حتى جسم . و قام على هؤلاء علماء التابعين وائمة السلف و حذروا من بدعهم. وشرع الكبار في تدوين السنن وتأليف الفروع وتصنيف العربية . ثم كثر ذلك في ايام الرشيد . وكثرت التصانف. والفوا في اللغات. واخذ حفظ العلماء ينقص. وذوت الكتب. واتكلوا عليها . و انما كان قبل ذلك علم الصحابة و التابعين في الصدور فهي كانت خزائن العلم لهم رضي لله عنهم .»
شيوخه: كانت المدينة قبلة طلاب العلم من شتى ارجاء البلاد الاسلامية. وقد لمعت في الشطر الأول من حياة مالك – في ظل حكم الأمويين – أسماء عديدة ، تتلمذ مالك على بعضهم ، و أخذ عنهم الحديث والفقه، على نهج مدرسة المدينة ، أي مدرسة الحديث والاثر، في مقابل مدرسة الكوفة التي عرفت بمدرسة الرأي و القياس. وقد أخذ الإمام مالك من مجموعة كبيرة من علماء المدينة وشيوخها، كما أخذ من غيرهم. نذكر منهم: عامر بن عبد لله بن عبد لله بن عامر بن عبد لله بن الزبير بن العوام، وزيد بن اسلم: وسعيد المقبري، و صفوان بن سليم، وصالح بن كيسان، واسماعيل بن ابي حكيم، وحميد بن قيس المكي: كما أخذ الإمام مالك عن الإمام جعفر الصادق الذي أعلى راية الحديث في قبال الرأي والقياس. وقد اتسعت مدرسته في فترة الانفراج التي أتاحها انتقال السلطان من بني أمية إلى بني العباس.فهو من أهم شيوخ الإمام مالك، رغم أن الأحاديث التي يرويها عنه في الموطأ قليلة جدا.
بيد أن الإمام مالك اختص بالأخذ عن مجموعة من الشيوخ و لازمهم لفترة طويلة، وهم:
– ابن هرمز: و هو أحد رجلين يعرفان بهذه الكنية . أما الأول فهو عبد الرحمان بن هرمز ، و لقبه الاعرج ، و كنيته ابو داود ، و كان قارتا، محدثا . توفي سنة 117 هـ . أما الثاني : فهو عبد لله بن زيد بن هرمز و كنيته ابو بكر . توفي سنة 148 هـ. ولا يعلم على التحقيق ، أي الرجلين اختص به مال واخذ عنه.
– نافع : هو مولى عبد لله بن عمر. توفي في حدود سنة 117- 120 هـ . روى عن مولاه عبد لله بن عمر، و ابي لبابة، و ابي هريرة، وعائشة. وهو، كما عده البخاري، احد حلقات سلسلة الذهب في الاسناد ( مالك عن نافع عن ابن عمر). وعنه اخذ مالك فقه ابن عمر وقضاياه.
– الزهري: هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، و يعرف بابن شهاب. توفي سنة 124 هـ كان ذا حظوة عند خلفاء بني امية. و ولاه يزيد بن عبد الملك القضاء. و رفع من شأنه عمر بن عبد العزيز. و روى مالك ان ابن عبد العزيز كلفه بتدوين احاديث النبي (ص) وله في الموطأ اكثر من مئة و ثلاثين حديثا.
– ابو الزناد: هو عبد لله بن ذكوان، مولى بني امية، ابو الزناد المكدني. توفي سنة 120هـ. روى عن ابن عمر مرسلا، و عن الاعرج. رفع الامويون شأنه وولوه بعض امورهم.
– ربيعة الراي: هو ربيعة بن عبد الرحمان بن فروخ. يكنى ابو عثمان. و هو مولى لآل المنكدر. توفي سنة 136هـ .و لزم الامام مالك ربيعة فترة طويلة غير انه فارقه في اخر الأمر. وظلت اراء ربيعة واضحة في فقه مالك .
مكانته وعلاقته بالخلفاء: شهد عصر الامام مالك فلافل و فتنا. وجرت فيه أحداث وثورات، وتحولات سياسية خطيرة. وكان اهم تلك الاحداث سقوط الدولة الاموية التي قامت محلها دولة بني عباس. ورغم اهمية الاحداث التي جرت وقتذاك فان مالك لم يشارك في واحد منها، اذ كان يميل إلى المسالمة. وعرف عنه انه كان كثير الصمت. غير ان العلماء لم تكن مواقفهم واحدة. ففي حين خرج ابن هرمز ، وهو احد اهم شيوخ مالك، و شارك في ثورة محمد بن عبد لله، المعروف بالنفس الزكية، ضد العباسيين، فان الامام مالك لم يساهم أي مساهمة فعلية في تلك الثورة.
غير أن ذلك لم يمنع أذى المنصور من أن يصل مالكا .فجلد الامام بالسيط وأهين. وقد اختلفوا في سبب هذه الحادثة . فقيل ان ذلك بسبب ما افتى به الناس في المشاركة في ثورة محمد النفس الزكية . و قيل : بل لان المنصور طلبه للقضاء فرفض. وقيل: إن المنصور امره بالامتناع عن رواية حديث طلاق المكره فخالفه مالك. غير أن ابن بكير – احد تلامذة مالك – زعم ان سبب ذلك هو تفضيل مالك لعثمان على علي، فسعى به الطالبيون عند المنصور و لذلك ضرب. وهذا الزعم غريب حقا، لأن المنصور كان مبغضا لعلي واهل بيته . ولعل العامل السياسي هو خير ما يفسر الاهانة التي تعرض لها الامام مالك على يد جعفر بن سليمان ابن عم المنصور العباسي حين ولاه على المدينة، بعد عزل عبد الله بن الربيع من أجل قمع ثورة محمد بن عبد لله. إذ يروي ابن قتيبة في الامامة و السياسة أن جعفر بن سليمان اجبر الناس على البيعة. وان مالكا كا ن يفتي اهل المدينة بان البيعة التي أخذت منهم قهرا لا تلومهم ، و هم في حل منها ، لأنهم كانوا مكرهين، مسندا فتواه إلى ما رواه عن النبي (ص) من أنه قال: «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما أكرهوا عليه». وفي هذا الضوء ، يمكن أن نجمع بين هذه الرواية والرواية الاخرى القائلة بأن السبب الذي جلد من اجله الامام كان روايته لحديث طلاق المكره – اذ كان المراد به غير الحديث المذكور – بان ذلك انما جاء على سبيل الاستدلال لفتواه يبطلان بيعة المكره.
ستكون هذه الحادثة المؤسفة نقطة تحول في سياسة العباسيين تجاه الامام مالك، بعد ان اخمد جعفر بن سليمان ثورة المدينة بقوة السيف. إذ سيسارع المنصور إلى خلع جعفر هذا وولى مكانه، على المدينة، رجلا من قريش من بني مخزوم كان يوصف بدين و عقل وحزم وذكاء، كما يعبر ابن قتيبة، وهي صفات تخالف صفات جعفر بن سليمان. ونفهم من ذلك تحولا في سياسة المنصور تجاه اهل المدينة – بعد أن اطمأن إلى إخماد ثورتها – فصار يعامل اهلها بأسلوب فيه لين ..
أرسل المنصور يعيد هذه الحادثة إلى الإمام مالك يستقدمه إلى بغداد، فاعتذر اليه الامام، فكتب اليه المنصور مجددا يأمره بان يوافيه في موسم الحج . فامتثل الامام امره، وحج في تلك السنة . وعند اجتماعه بالمنصور، اعتذر الاخير اليه مما لحقه على يد واليه على المدينة ، وتحادث معه ، و طلب منه ان يضع كتاب الموطأ . و ينقل ابن قتيبة اجواء هذا اللقاء، رواية مالك ، نقتطف منه ما يتعلق بالموطأ:
«قال لي: يا ابا عبد لله. ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا. وتجنب شدائد عبد لله بن عمر، ورخص عبد اله بن عباس، و شواذ بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، و ما اجتمع عليه الائمة والصحابة رضي لله عنهم، لنحمل الناس، ان شاء الله، على علمك وكتبك، ونبثها في الامصار، ونعهد اليهم ان لا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها . فقلت له: اصلح لله الامير. ان اهل العراق لا يرضون علما، ولا يرون في عملهم راينا. فقال ابو جعفر : يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط. فنعجل بذلك وضعها. فسيأتيك محمد المهدي ابني في العام القابل، ان شأء لله إلى المدين، ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك ان شأء لله.
ثم يقول ابن قتيبة: «ان مالك بن انس لما اخد في تدوين كتبه ، و وضع علمه قدم عليه المهد بن جعفر، فسأله عما صنع فيما امره به ابو جعفر ، فأته بالكتب و هي كتب الموطأ ، فأمر المهدي بأستنساخها، وقرثت على مالك. فلما اتم قراءتها امر له بأربعة ألاف دينار، ولابنه بألف دينار.
هكذا نال الامام مالك غاية التبجيل والتعظيم من المنصور في اخر دولته. وكذلك فعل بعده المهدي فكان يبالغ في اكرام مالك و يجزل له العطاء ويصله بهدايا.. ولما جاء الرشيد إلى كرسي الخلافة استمر على سيرة سلفه، فزاد في توقير الامام وتبجيله و الاغداق عليه . وكان الامام مالك بدوره لا يقصر في ابداء النصح لمن استنصحه من الخلفاء العباسيين، في انفسهم و في رعيتهم . وكان حريصا على ان يصل من رخاء المملكة العباسية إلى أهل المدينة الذين كانوا يعانون ضيقا وشدة في العيش. وكذلك الخلفاء لا يردون طلبه. وفي ذلك دليل على ان الامام لم يستغل مكانته عند الخلفاء لمصلحته الشخصية ، بل كان يسعى في استتمارها لصالح عامة اهل المدينة وخاصتهم ، يرفع بها فاقتهم، ويسد حاجتهم ..
وكان من علو شأنه عند الخلفاء ان كان المنصور يطلب مزاملته وصحنته في الحج. واناط به حق رعاية حكام حواضر الحجاز ، فجعل بيده عزلهم ، اذى راى منهم ما يكره ، الامر الذي جعلهم يخشون مخالفته ، و يسعون في ارضائه ، و يهابونه . فعلا بذلك قدره في اعين الناس ، و لمع نجمه دون اقرانه من علماء المدينة .
هيبته ووقار مجلسه : تجد لهيبة الإمام مالك و وقار مجلسه و موقعه من نفوس الناس تصويرا بليغا في تذكرة الحفاظ حيث نقرأ: «قال قتيبة: كنا اذا اثينا مالكا خرج الينا مزينا مكحلا مطيبا، قد لبس من احسن ثيابه. فتصدر ودعا بالمراوح فأعطى كل انسان مروحة . قال ابن سعد: حدثني محمد بن عمر قال: كان مالك يأتي المسجد ليشهد الصلوات والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ، ثم ترك الجلوس فيه فكان يصلي وينصرف وترك شهود الجنائز فكان يأتي اصحابه فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله والصلاة في المسجد و الجمعة، واحتمل الناس ذلك كله فكانوا ارغب ما كانوا فيه، و اشد له تعظيما و كان ربما كلم في ذلك فيقول: ليس كل الناس بقدر ان يتكلم بعذره.
وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة و يسرة لمن يأتيه. وكان مجلسه مجلس وقار وحلم و علم ، وكان رجلا مهيبا نبيلا. ليس في مجلسه شيء من المراء و اللغط و لا رفع صوت، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب الا في الحديث بعد الحديث. وربما اذن لبعضهم يقرأ عليه. وكان له كتاب قد نسخ كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة، فليس احد ممن يحضره يدنو و لا ينظر في كتابه، ولا يستفهم هيبة لمالك وإجلالا. وكان إذا أخطأ حبيب فتح عليه مالك».
تلاميذه ومن أخذ عنه: يتعذر حصر جميع الذين أخذوا عن الإمام مالك . فقد قصده عدد كبير من طلاب العلم و الشيوخ في ذلك العصر، بعضهم من المدينة وبعضهم من العراق وبعضهم من مصر وبعضهم من شمال افريقيا وبلاد الاندلس، و هكذا… لذلك سنقتصر هنا على يحي بن يحيى المصمودي، من علماء الأندلس، صاحب أشهر رواية للموطأ، وهي المراد بالموطأ حين ذكره، وهي هذه النسخة التي بين يدي القارئ (الموطأ للإمام مالك بن انس، برواية يحي بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي القرطبي).

الكاتب : علي المرابط الورزازي - بتاريخ : 22/02/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *